في المقهى

You are currently viewing في المقهى
في المقهى


طلبت من النادل أن يحضر لها قهوتها كالعادة، لقد اعتادت أن تأخذ مكانا قصيا في زاوية من المقهى تلك التي تطل على البحر ما تخلفت عنها لقد شهد ذاك المكان عن حدث موجع ظل راسخا بذاكرتها، أقبر حلما كانت تنشد أن يحلق بها إلى عنان السماء. لم يقطع عليها حبل تفكيرها سوى النادل الذي بدا أمامها مبتسما، يحمل فنجان قهوتها المعتاد، قدمه لها سائلا عن حالها وهو من عاش ظروفها ويدري بكل ما مرت منه، عشرون عاما وكأنها البارحة.

ابتسمت في وجهه وطلبت منه أن يأتي بقطعة سكر لقد نسيها مستغربة من نسيانه، تمتم بلطف:
معذرة سيدتي لم أنتبه لست اليوم على مايرام، فما سبق لي أن فعلتها والسنين التي قضيتها معنا تشهد على ذلك.
أجابته:
لاعليك هي السنين نفسها من جعلتك تنسى الآن فما عدنا كما كنا، وقد رحلت بشبابنا وأخذت من صحتنا.

وهي تثرثر مع النادل تفاجأت بدخول شخص إلى المقهى رفقة امرأة وشاب معهما، لم يبدو غريبا عنها بريق عينيه لقد ألفته منذ عهد قديم، هو ذاك الذي سكن قلبها، كانا يرتدان هذا المقهى مع بعضهما البعض على نفس تلك الطاولة التي هي فيها الآن، كم تحدثا وخططا لتحقيق حلمهما على أن يغدو تحت سقف واحد، ما ظنت أن يخلف وعده ويتركها ليسرقه بعيدا عنها. استغربت لما أتى بعد كل هذا الزمن الذي مر؟ بل وإلى هنا، تساءلت مع نفسها ربما ضميره أنبه.
تجمدت فرائصها عندما اقترب من مكان تواجدها، جلس قريبا منها هو وأسرته، لم تعد تقوى على الكلام، احتضنت كوب قهوتها لعل سخونتها المتسربة تدفء ما أثلجته أيامها، تساءلت بينها وبين نفسها:
كيف له الجرأة أن يزور هذه المقهى بعد أن قضى عليها وقتل كل جميل فيها وتبرأ منها؟

فكرت في النهوض والابتعاد ليس منه بل من ماض عاد ليقلب عليها المواجع، رأت النادل قادما نحوها وكوب عصير بيده، همس بصوت خافت:
سيدتي تفضلي العصير لتهدئي من أعصابك، أرجو أن لا تعذبي نفسك من أجل إنسان لايستحق.
أجابته وسيل من الدموع ما استطاعت إيقافها:
لقد دمرني ورحل، وما كفاه ذلك بل أتي ليعيد ذلك، وأنا أراه مرة أخرى سعيدا في حياته وأسرته.
قالت ذلك والتفت نحوه لتراه واجما ممتقع اللون من المؤكد عرفها، كانت زوجته تحدثه وهو لا ينطق بكلمة وكأنه أدرك حجم ما اقترقه من ذنب في حقها، وهي من وهبته كل نفيس لديها، أو ربما أنه خائف من أن تكشفه أمام أسرته عن نذالته وحقارته.

في لحظة ما، بدا وكأنه على وشك أن يبادرها بالكلام. فقد انفرجت شفتاه، وهو يحدق بها، ولكنه لم يقُل شيئا. ما عاد شيء يقال بعد أن رأته الآن سعيدا وقد حقق ذاك الحلم الذي رسماه مع بعضهما البعض، لكن ما جنت من ثماره شيئا بل غيرها.

حملت حقيبتها وارتدت نظارتها حتى لا ترى العالم بوضوح، فلا شيء يستحق أن تمعن النظر فيه بعد الآن حتى تعطيه أكثر من قيمته ولا أن تخصص له مكان في حياتها، بل أن تحيا لأن وجودها يحتم عليها ذلك، وأن تحرر روحها بعيدا عنها ولا تتركها قيد ذاتها حتى لا تؤلم نفسها بعد الآن.

سميا دكالي

أقدم بين يدي كل عابر على صفحتي عصارة إحساسي مترجمة أحداثا قد أكون عشت بعضا منها. وأخرى صادفتها عند غيري, اتمنى ان تنال إعجابكم وسيكون لي شرف من سيتابع كتاباتي.

اترك تعليقاً