بائعة الخضر

You are currently viewing بائعة الخضر
بائعة الخضر

مدت السبعينية يدها وهي ترتعش من البرد لتناول أحدهم كيلو طماطم، هي صابرة بائعة خضر متنوعة بالتقسيط لم تكن بمفردها. كان معها باعة متفرقة على الرصيف تلك معيشتهم البسيطة التي يعتمدون عليها تعففا عن سؤال الغير. لم تكن تفترش سوى قطعة كرتون في أحد أركان السوق وسط المدينة العتيقة، ففي ذاك المكان كانت تختبىء فيه من سيول الشتاء التي هطلت بغزارة هذا اليوم، لكن قساوة البرد لم ترحم جسمها النحيف المنهك، فصابرة لم تكن ترتدي سوى ثياب قديمة غير كافية لتدفئها، أنّى لها بملابس ثقيلة وهي بالكاد توفر لها قوت يومها وتدخر ما تبقى منها حتى تؤدي ثمن الإيجار لغرفتها المتواضعة ومعها فاتورة الماء والكهرباء. وثمن الدواء لمرضها المزمن.

في هذا اليوم لم تحبس السماء دموعها ولم تتوقف الرياح عن صفيرها، القلة من الناس من خرجت تتسوق للضرورة. حاولت صابرة تجاهل الطقس السيء، لكنها لم تسلم منه تجمدت يداها حركتها ببطء لتحف كفيها بعضهما ببعض علَّها تشعر بقليل من الدفء لكن عبثا لم تفلح.
انسابت دمعة من مقلتيها تأسفا على ماض عاشته في أمان لينقلب كل شيء إلى ما لم تتوقعه،  مخطىء من يعتقد أن لا ماض قد يتبع الإنسان إن أغلق عليه باب ذاكرته ولكن كيف ذلك ؟ وصابرة كان لها زوج يحميها من غدر الزمان، ترملت ولا أبناء لها لتجد نفسها وحدها تعارك الحياة. ما أصعب أن يكون ذلك عند خريف عمرها وأمام صقيع قاتل وهي لا تملك من أمرها شيئا. من المؤكد سوف تظل تتحسر على الأيام التي كانت تعيشها في هناء.

توقف المطر بعض الوقت من الهطول جمعت صابرة بضاعتها وغطتها بقطعة بلاستيك كبيرة لتعود بها على عربة جارة إياها إلى مسكنها، وهي في الطريق وقفت عند بقال الحي  الذي تشتري منه يوميا ما تحتاجه قال لها مستغربا:
– صابرة ما كان عليك أن تخرجي في هذا اليوم المكفهر.
ردت عليه بيأس:
-ومن سيحضر لي ما أسد به جوعي، لا أحد لي ولا معيل سوى الله عليه أتوكل.
رق قلب البائع لها فزاد على طلبها ضعف ما سألته، لكنها رفضت ذلك بكبرياء قائلة:
– أرجو أن تناولني ثمن ما أدفعه إليك، فكم ساندتني في أقسى ظروفي لن أنسى لك ذلك، أعلم أن لك تبعات واللوم كل اللوم  على من هم يتولون أمورنا. ونحن لا نخطر على بالهم ولا يدرون بما عليهم من مسؤوليات.
فيا لثقل ما يحملون! نسوا أن عدالة السماء ستحاسبهم في يوم لن ينفعهم أحدا؟ لا أتصور كيف يغمض لهم جفن والآلاف تتضور جوعا وتعاني بردا.

فضفصت بما في داخلها واشترت منه لنفسها ما تسد به رمقها وأكملت طريقها الذي لا تدري متى ستكون نهايتها لتنتهي معها معاناتها.
فتحت باب غرفتها كما العادة كانت باردة وفارغة إلا من حصير عليه فراش لا يفي بالحاجة، ودولاب مهترء، وبعض الأثاث، وصورة على الجدار كلما التقت عيناها عليها  نظفتها ومسحت ما علق فوقها من غبار. لقد جمعتها بزوجها المتوفي عند بداية مشوار حياتها، فما ظنت يوما صابرة أن الأقدار ستغير مسارها. هي الحياة لا شيء يدوم على حاله فيها، وما تمر به الآن سينقضي لا محالة، والبرد الذي ينخر عظامها الآن لن تشعر به حين ستودعها، لتلحق به هناك حيث الأمان والدفء والرحمة والعدل.

 

سميا دكالي

أقدم بين يدي كل عابر على صفحتي عصارة إحساسي مترجمة أحداثا قد أكون عشت بعضا منها. وأخرى صادفتها عند غيري, اتمنى ان تنال إعجابكم وسيكون لي شرف من سيتابع كتاباتي.

اترك تعليقاً