أذكر وأنا في التاسعة من عمري وقطيع الأغنام يركض حولي باحثًا عن العشب الأخضر، السماء لم تبكي وموسم الجفاف وتغيّرات المناخ والطبيعة تُكشر عن أنيابها، وهو تمامًا مثل درس العلوم الذي لم أحفظه، ذلك الدرس الذي يحكي عن مراحل دورة المياه في الطبيعة،
أنا جائع أيضًا لقد حرمت من تناول إفطاري الصباحي بسبب إهمالي لدروسي، والجوع كافر فقلت لنفسي سأمسك تلك النعجة وأمص ضرعها الذي يتدلى ويكاد أن يلمس الأرض القاحلة وفعلتُ ذلك بِهوادةٍ وأمسكتها دون تعب ولكن الحمل الصغير والذي لم يبلغ من العمر شهرًا واحدًا والذي أيضًا كنت حاضرًا عندما أنجبته أمه لم يدعني ألمسها ودفعني برأسه بل نطحني برأسه الصغير ومن أين له تلك القوة
كل القطيع لوالدي وأنا الراعي لكني لا أملك قرارًا حتى على نفسي وغدًا أبلتي ستعاقبني لأني أهملت ولم أهتم بِواجباتي
ساعات طِوال فى المرعى وأنا أعزف دون ناي وألحن كلمات كنت قد ألفتها من بعض الأمنيات، أمنياتي الصغيرة، أن ينزل الغيث وينبت العشب في الأرض الجرداء وتقف الخِراف عن الجري ويعج المكان برائحة الأزهار وأن أطير أنا إلى السماء
لقد باع والدي كل تلك الخِراف والماشية أيضًا وأغلق أبواب المزرعة بعدما نزحت مياه آبارنا الثلاثة، يبست أشجار البرتقال وأشجار الليمون ولم يبقى إلا بعض من أشجار الزيتون ونباتات الصبّار والتى بقت الفاصل بين مزرعتنا ومزرعة الجيران وآهٍ من مزرعة جيراننا، والتى كانوا قد تركوها قبلنا، والدي صار تاجرًا وأكثر قساوة من ذي قبل وأنا تخرجت من الجامعة وتحصلت على وظيفة بعيدة كل البعد عن مجال تخصصي ولأني أثقن اللغة الأنجليزية أشتغلت في مخزن للأدوية والمواد الكيميائية رغم أن تخصصي في الطاقة البديلة والمتجددة مع أني لطالما حلمت أن أكون طيارًا
كل هذا دار في ذهني وأنا جالس في مزرعتنا القديمة والتى أزورها بين الفَيْنة والأخرى هاربًا من ضجيج الحياة متأملاً بعض من ذكريات طفولتي والتى نسيت عنها الكثير، أذكر في هذا المكان كم أكلت من حبات الفول السوداني واليوم أصبح أي المكان أثرًا بعد عينٍ
تلك البساطة وتلك الحياة التى أحن لها اليوم كانت حياة بمعنى الكلمة واليوم أنا كرجل آلي معدوم من أي شعور، أنا أكل وأشرب وأعمل وأنام هذا صحيح وحتى الرجل الآلي يعمل ويعمل بالشحن أيضًا وبِبطَّاريّة تبقيه حيًا لساعات، كنت قد لمست الحياة ذات مرّة وشممت رائحتها لكني اليوم لا أرَ للحياة وجهًا إلا الكآبة ولا لون فيها ولا طعم ولا رائحة لها، وهنا أعود بنفسي وأرجع إلى تِلك الأيام والتى أسميتها بالخوالي والتى لمْ تأتِ بشيءٍ في وقتها ولكن أتضح لي بأنها أتت بالكثير حتى أني ضحكتُ ضحكةً لم أضحكها منذ سنين، أذكر في حقل البرسيم عندما ومن فرط غبائي إلتهمت أزهار الخشخاش التى نبتت لوحدها بمحاذاة الحقل لقد انتشيت حينها وتخدرت أطرافي ونمتُ لساعات طويلة، لقد ضربني والدي ضربًا مُبَرِّحًا، شبعتُ أنا من الضرب وشبعت الخِراف وهاجت في حقل البرسيم
سأعزف الآن كالعادة دون ناي وسيجري الدمعُ ويسيلُ على خدٍّ لطالما تذوق طعمه وسأمارس هوايتي القديمة وأكتب قصيدة بكلمات جميلة وبِلحن حزين، وفجأة تذكرت بنت الجيران والتى ترعرعنا معًا والتى أيضًا تناولت معي أزهار الخشخاش ذلك اليوم والتى لم أعد أراها منذ أن تركوا مزرعتهم فكتبت:
خطرتَ على بالي
كأُمْنِيّة قديمة
شجرة عالية
بنيتُ في قلبها
بيتًا
ذو شُرْفة تُطِلّ
على حُلْم وردي
لا شيء يتحقق
إلا أنكَ هنا
أقرب من دَقّة قلبي
خطرتَ على بالي
ليس كالمُعتاد
بِطريقة لم يمنعها
الغِياب
خطرت وبأدق تفاصيلك
الكاتب الحسين صبري/ ليبيا