الندم

You are currently viewing الندم
الندم

ليتني ما فعلتها في ذلك اليوم الأغبر ، وياليتني تحررت من فكرة ارتياد مقهى الصيادين المطلة على وادي المدينة وقد عاهدت نفسي بأن لا تطأ قدماي عتبتها بعد فقدان صديق ذات سنة ونحن نسبح معا في عمق الوادي ، فقد التهمه تيار غامض بدون رحمة كوحش كاسر ولم يعثر على جثته إلا بعد يومين من الغطس والبحث ، مازال مشهد رأسه المهشم ماثلا بين عيني ومابرح محياه الأصفر وشفتاه الزرقاوتان ذهني ولا أعتقد أن ذلك سأنساه ما حييت ، كنت حينها ملفوفا ببطانية من شدة البرد والصدمة ، جالسا القرفصاء ، أمني نفسي بانتشاله حيا ، لكن دون جدوى ، طرحوه أمامي مسجى فبكيت مع الصيادين رحيله ، حملناه إلى مثواه الأخير ، وطويت الأيام طيا ، لكن بات طيفه يزورني عند منامي ويقظتي كل حين ، كيف لا وقبل أن يلقى مصيره المحتوم نظر إلي في عمق الوادي وابتسم قائلا : ” صديقي ، أشعر أن رحيلي بات قريبا ” .
ظننته يسخر من حياة أحبها بجنون ، لكن قبل أن يرتد لي طرفي غاب عن نظري كمن خسفت به الأرض وصار في خبر كان .
ترجلت ببطء شديد إلى المقهى و كأني به قد رحل بالأمس ،
وددت أن أنزوي في المكان الذي كنا نجلس فيه ، نقص على بعضينا همومنا ونمني نفسينا بأحلامنا المؤجلة ، ونكتب أشعارا محتشمة احتشام عمرينا ونستعرضها معا ، كان يكتب بروحه ويحتفظ بما كتب معتقدا أنه يخط للزمن .
التقاني النادل النحيل عند مدخل المقهى مرحبا و مستفسرا عن غيابي الطويل ، أسررت له بأن رحيل صديقي قد أذهب عني متعة المكان ، تساءل النادل :
– ” ماذا تقصد برحيل صديقك ؟ أنت الذي غبت كثيرا ، صديقك الذي ذكرت يأتي إلى هنا كل صباح ، يتصفح الجريدة ويحتسي قهوته كالمعتاد ، ويكتب كثيرا على الورق ” .
عقبت وقد اكتنفني الذهول حتى كاد يسقطني أرضا :
” ماذا تقول يا بشر ؟ أي صديق تتحدث عنه ، انا اقصد صديقي الذي كنت أرافقه إلى هنا ونجلس معا في في ذلك المكان ” .
ابتسم النادل عمدا وقد بدا عليه الارتباك فعقب :
” أأنت بخير ؟ أكررها للمرة الألف بأن صديقك أتى اليوم باكرا وقد غادر للتو ، لقد رأيته بعدما استخلص ثمن قهوته يتجه صوب هذا المنحى من الشاطىء ، إذا سارعت الخطى فأنت مدركه ” .
ضربت بكفي وجهي لأقطع الشك باليقين ، هل أنا في حلم ؟ لا ، انا في اليقظة ماثل أمام النادل وورائي الوادي الذي ابتلع صديقي ، وهذا المخبول يدعي بأن صديقي الذي عاينت جثته لم يقض غرقا وأنه حي يرزق ويرتاد المقهى كل صباح.
لم تسعفني رجلاي بأن أنشد أثر صديقي ، ظننت أن النادل مجنون أو ساخر ، همست طالبا قهوة سوداء ، وأخذت مكاننا المعتاد ، لمحت ورقة يتيمة شبه ممزقة على المائدة ، تناولتها بيد مرتجفة ، مسدتها برفق وأنا أغالب ارتباكي ، يا إلهي ، إنه خط صديقي ، لقد بدأ كتابة خاطرة فلم ترقه على مايبدو فعمد إلى تمزيق الورقة ، لم أكمل شرب قهوتي ، غادرت وقد شككت في أمر حالي ، هل أصبت بالخرف وأنا في مقتبل العمر ، هل حلمت بأن صديقي قضى في الوادي قبل شهور مددا ، هل تشابه على النادل المرتادين على المقهى ، هل صديقي لم يمت فعلا ، هل خيل لي أنه مات حينها لكن رجال الإسعاف انتشلوا جثة أخرى ومن فرط تعلقي بصديقي خلته هو ، هل ، هل …..
وأنا أغادر التقاني صياد عجوز كنا نقاسمه فطور الصباح على صخرة بشاطئ الوادي ، حياني وعانقني وهو ينتحب قائلا :
“متيقن بأنك لم تنس ذلك الصديق الجميل ، لقد ترك رحيله في أنفسنا حسرة ، صبرك الله ياولدي، تلتقيان في جنة الخلد”
ما تذكرته حينها سوى أنني هويت أرضا ، ولم أستفق إلا في مصحة وأنا أردد أمام ممرضة :
” ياليتني لم أفكر في ارتياد تلك المقهى ، لقد ندمت ” .

القاص جمال عتو المغرب

سميا دكالي

أقدم بين يدي كل عابر على صفحتي عصارة إحساسي مترجمة أحداثا قد أكون عشت بعضا منها. وأخرى صادفتها عند غيري, اتمنى ان تنال إعجابكم وسيكون لي شرف من سيتابع كتاباتي.