استيقظت محبوبة كعادتها عندما لاحت تباشير الفجر،
و التّعب يكاد يمزّق أطرافها تمزيقا لشدّة ما قاسته من إرهاق خلال اليومين الأخيرين في عملها بالحقل لدى أحد الفلّاحين الميسورين، حيث كانت تعمل تحت الأشعّة الحارقة لشهر جوان، و وسط لَفحِ ريح حارّة كانت تصهد وجهها صهدا، رغم وضعها لمظلّة من سعف النّخيل على رأسها لتقيها من الحرّ الشّديد.
تحاملت محبوبة على نفسها، و ذهبت إلى المطبخ
بخطوات متثاقلة لإعداد القهوة، و لسلق بيضتين لابنها حامد الّذي لم يتجاوز الخمس سنوات من عمره، و لابنتها حليمة ذات السّبع سنوات، فهي لا تستطيع التّغيّب عن العمل و لو ليوم واحد، و هي العائلة الوحيدة لابنيها بعد وفاة زوجها عبد الرّحمن إثر صراع مرير مع المرض الخبيث. فكيف لها أن تتغيب، أو تتأخّر عن العمل، و العيد على الأبواب؟! و من أين ستأتي بالمال اللّازم لشراء ملابس العيد لابنيها الصّغيرين اللّذين يُلِحّان عليها يوميّا في الطّلب، و يُمنّيان نفسيهما دائما بملابس جديدة يتباهيان بها يوم عيد الفطر المبارك مثل أقرانهما، و هي المرأة العفيفة، الشّريفة، عزيزة النّفس الّتي تترفّع عن مدّ يدها طلبا للمساعدة، رغم ما تعانيه من فقر مدقع و فاقة؟!..
شربت محبوبة قهوتها على عجل، و قبّلت ابنيها
و تركتهما نائمين كعادتهما، ثمّ غادرت بيتها المتواضع حاثّة الخطى للّحاق بزميلاتها بالمكان المعهود، حيث يقفن منتظرات شاحنة العم سالم لنقلهنّ إلى الحقل أين تنتظرهنّ الأوامر الصّارمة و أدوات العمل..
لم تنتظر محبوبة، و رفيقاتها كثيرا حتّى توقّفت شاحنة
العمّ سالم، و بسرعة صعدت العاملات إلى الصّندوق الخلفيّ
للشّاحنة، و وقفن متلاصقات، في مشهد يسلب العاملات كرامتهنّ، و يجعل الصّندوق أقرب ما يكون إلى علبة السّردين. انطلقت الشّاحنة بهنّ تطوي الأرض طيّا. و لمّا وصلن إلى الحقل، كُلِّفَت كلّ عاملة بعملها المَنُوط بعهدتها، و ما هي إلّا دقائق معدودة حتّى شرعت العاملات في الجهاد، و قد بدأت الشّمس ترسل أشعّتها الدّافئة الّتي تحوّلت بعد ثلاث ساعات من العمل المضني، و المتواصل إلى قرص حارق يصهد الجلود صهدا، و رغم الحرارة المرتفعة و الرّطوبة العالية، كانت العاملات يعملن بهمّة، و جدّ و نشاط مُمنّيات أنفسهنّ بالحصول على أُجراتهنّ الأسبوعية الزّهيدة مباشرة بعد الانتهاء من ساعات العمل المرهق.
في المساء، إثر الانتهاء من العمل، و أخذ قسط من الرّاحة تحصّلت كلّ عاملة على أجرتها الأسبوعية، فكنّ سعيدات رغم التّعب و الإرهاق. استقللن الشّاحنة كالعادة
و انطلق بهنّ العمّ سالم في طريق العودة إلى منازلهنّ، فكنّ مزهوّات يردّدن أغاني شعبية جميلة، و قد تعالت الضّحكات
و الزّغاريد من حناجرهنّ لتملأ الفضاء بهجة و حبورا، و فجأة حدث ما لم يكن في الحسبان. انفلق الإطار الأمامي الأيمن، فانقلبت الشّاحنة بالعاملات، و تدحرجت في جُرف سحيق بجانب الطّريق.. تعالى الصّياح، و حلّ الخوف و الرّعب بدل الارتياح، و اختلط الأنين بالأوجاع، و تناثرت الأجسام
و الأشلاء في الطّريق، و في المنحدر العميق، و سالت الدّماء سيلان الأودية في فصل الشّتاء..
كانت محبوبة تُمسك أجرتها الأسبوعية بقبضتها اليمنى
بكلّ ما أُوتِيت من قوّة، و قد غطّت الدّماء وجهها الشّاحب النّحيل. ارتخت أطرافها، و تسارعت أنفاسها، و هي تئنّ
بصوت خافت حزين. و بمرور الوقت بدأت أنفاسها تتقطع
شيئا فشيئا، و فجأة تلألأت في مقلتيها دمعتان ترويان
مأساة عاملات مجاهدات في سبيل لقمة العيش..
الكاتب كمال العرفاوي/ تونس