أستطيع أن أنام لثلاثة أيام متتالية وبالفعل حصل ذلك وأستيقظت لبرهة لتمد لي الحياة الكئيبة بقدحٍ لا يخلو من المرارة، ولكنه يخلو من أي نكهة أخرى مما جعلني أعود للنوم لثلاثة أيام أخر، ونهضت من فراشي بعد جمع عظامي ومفاصلي وسماع طقطقتها ومارست ما كنت أمارسه، الحقيقة أنا لا أفعل شيئًا ولم يفوتني شيء سوى غرق شارعي نتيجة المطر، وانتحار ابن صديق لي وقُتل ابن صديقي الآخر بالرصاص العشوائي، وصَدمت سيارة يقودها مُراهق جارنا الطيب المسن ويقال أنه كان عزاءً كبير، في تلك الأيام الستة لم أحس الوجع ولم يزورني حلم وردي ولم يزعجني كابوس بوجهه المخيف، كالميت أنا وكالآن بالتحديد، فقط الإختلاف أن الكوابيس هنا تأتي بإستمرار والوجع يأتي من كل مكان، أما التشابه فقد صبغ ألوانه على كل الأشياء الباقية، حتى أن التلاميذ لم يذهبوا إلى المدرسة من كثرة العطلات وخاصةً تلك (الحِكمة) التى تقول (أن اليوم الواقع بين عطلتين يكون عطلة)، أعتقد بأن من سَنَّ ذاك القانون كان ذات يوم يجلس في المقعد الخلفي في صَفة الحائط.
تكثر الأحاديث في المقاهي والتى تشبه الثرثرة والتى هي أيضًا نفس الأحاديث التى كنت أسمعها منذ ستة أيام مضت، لم يتبدل شيء ولم يتغيّر شيء، نعم أسمعُ جَعْجعة ولا أرى طحنًا، أسمع جَلبة ولا أرى عملاً، والكل يفقه في كل شيء وكأنما أخطاءنا المتكررة تجري مجرى الدم وعجنت أيضًا معنا عجنًا
وأنا ميت في فراشي يمرَّ الوقت في رمشةِ العينِ كما يمر الآن
وأنا في فراشي جثة هامدة لا حّراك لي إلا أنفاس تدخل وتخرج والحقيقة أنا لا أسمعها مثل الآن.
أجوب بهذا الجسد الطرقات هائم على وجهي، جسدي الذي يكافح لعله يعثر على رأسي، أسمع أنفاسي ولكنها تبدو باردة وكأنها في زمنٍ ما كانت تبحث عن شيء حتى أحسها اليوم باردة كالثلج، والأفكار ومنذ فترة تراوح مكانها وإن تَحركت أي الأفكار تدور وتلف داخل إطار لا أكثر ولا تستطيع الخروج منه،
(الإنسان الطيب الوحيد في هذه الدنيا هو الميت) لقد قرأت هذه العبارة في احدى الكتب لكنها على ما يبدو غير صحيحة، كل يوم ألتقي بالموتى لكنهم ليسوا طيبون أو طيبين، ورغم موتهم ووجوههم الشاحبة فهم ليسوا حقيقيين يلفهم الغموض والوهم من كل جانب
هذا الصباح ليس ككُل الصباحات، كنت قد طحنت الملل تحت أقدامي، وأخذت جرعة من الأمل ورسمت إبتسامة كبيرة على شفاهي، وإنطلقت إلى الحياة كفراشة خرجت لتوها من شرنقتها تتباهى بلون جميل مُشرِق زاهي، وإذ بسيارتي بحاجة الى البنزين، والبنزين في مدينتي مفقود، لا يهم فالمشي رياضة وأنا من مدة لم أتحرك والأيام الستة كفيلة بأن تجعل الجسد خاملاً كسُولاً جَمود، والحركة بركة لكن الجيب يئن والمصرف خاوي على عروشه والسيولة لحقت بالبنزين، لا يهم، يقبع دنارين في جيب بنطلوني الخلفي ثمن كوب ورقي مملوء بالقهوة السوداء، وعند صاحب القهوة يدخل صوت جارة القمر عبر طبلة أذنك حتى تشدو معها ومع ملعقة سكر قد تحلو الحياة أكثر، إلا أن ذاك التلفاز الكبير المعلق في ركن المقهى وذاك الخط المكتوب بالبنذ العريض وذو لون أحمر وتحت عنوان عاجل يجعلك مشدوهًا مدهوشًا.
الحرب تقرع الطبول، لا السكر له طعم ولا القهوة المُرّة غيرت مزاجي، وعدت أدراجي إلى البيت في ذهول، فراشي في إنتظاري وسأضع سدادة لأذني وأنام إلى أجل غير مسمى،
قد أحلم هذه المرّة حلم يقظة وأرَى الناس كنوارس بيضاء تحلق في وسع الفضاء، أو كحمامات تبني أعشاشها على أشجار زيتون يلفهم السلام برداءه ويغنون في فرح وحبور ولم تعد الأماني معلبة ولا الكذب والنفاق والباطل له الغلبة والكل على قدمٍ وساقٍ يعملون
الكاتب الحسين صبري/ ليبيا