ليست الحرية هي أن تقودك قدمك إلى حيث شئت أو تجد كل ما تشتهيه بين يديك، بل هي أن يتحرر تفكيرك من كل الشوائب الملتصقة به ويفك قيد نفسك من أسرها، حينها ستصبح حرًا طليقًا.
أشعر أنني لست بخير، لقد أصبحت نفسي سجينة ذاتها وتفكيرها، أسيرة أحداثي المفروضة علي رغما عني. فقلبي لن يطاوعني إن تخليت عن جاك سأعيش باقي عمري أحمّل نفسي ذنبه، وإن سايرته وارتميت بين أحضانه نفس العذاب سأحياه اتجاه ابنته لأني سأكون السبب في حرمانها من حنان أبيها.
هذه الليلة لم أسلم من الأرق وأنا تائهة بين نفسي وذاتي، فكل التخيلات والمتاعب لا تأتينا إلا مع أخيلة الليل لتسافر بنا بين دروبها الحالكة، تضمحل أمامنا حين يقترب ضوء النهار معلنًا بمجيء صباحٍ ليشعرنا بعزيمة نتمسك بها رغبة في تحقيق آمالنا.
قمت من سريري في اتجاه الحمام لأستحم وأغسل أفكاري معي ربما قد أستعيد حيويتي ويرتاح فكري، بعد أن تهت كثيرًا بين دروبي المتشابكة، الآن حان الوقت لأختار دربي رفقة جاك الذي وجدت فيه شيئًا من أبي، كيف سأحرم نفسي منه وقد عاد إليَّ! ربما ابنته قد تتركني أقاسمها بعضًا منه.
نزلت إلى الأسفل، كم كانت دهشتي حين رأيت ليفيا معنا! على الأقل سأجد من يسليني ويرفِّه عني، أظنها جاءت لقضاء ما استطاعت من الوقت، فقد قرب رجوع أخي وجون إلى أمريكا. انضممت إليهم لشرب فنجان قهوتي وتناول وجبة الفطور، كان جون ينظر إلي نظرة متأسف تتموج في نظراته معاني اليأس والقنوط، ابتسمت له حتى أدخل في قلبه الفرح أعادها إلي وقد انفرجت أسارير وجهه. لا بد له أن يعرف أن ذلك ليس ذنبي، فالدهر هو من قادني على حين غفلة إلى جاك بعد أن وجد روحينا متلائمتين.
أكملت فطوري وبينما كنت أهم بالخروج استوقفني جون راغبًا مني أن يحدثني بعض الوقت، لم أمانع فأنا أشعر به هو أيضًا ضحية أحداثي، جلسنا على أريكة في الصالة، أطرق رأسه وبعد تفكير مطول أخبرني ليقول:
سنو وايت، حبيبتي أنا لن أعاتبك أو ألومك لأنك لم تحبيني، فتلك مشاعرك وأنت حرة فيها وكم أود أن تتحقق رغبتك لأجدك فعلًا سعيدة/ فمحال من يحب أن لا يتمنى لمحبوبته السعادة.
لا أعرف بما أجيبك جون، فأنت فعلًا شخص رائع وكم تمنيت أن أحبك لأرتاح!
سنو وايت افعلي شيئًا واحدًا، أنا سأعود إلى أمريكا فأعمالي تركتها معلقة هناك، ولكن قلبي تركته عندك ولن أفكر بالارتباط بأية امرأة أخرى؛ لأني عشقتك حتى الثمالة وسأنتظرك ربما تصبحين من نصيبي.
لم أجد جوابًا لكلماته المؤثرة، فعلًا هو شخصٌ مسالمٌ وصبورٌ يملك أخلاقًا نبيلة قلَّما يعثر عليها الآن، رجاني أن أقترب منه ليودعني لم أرفض طلبه احترامًا وتقديسًا لمشاعره الجميلة، أخذني في حضنه لحظات ماسحًا على رأسي بلطف لم أشعر إلا ودمعة نزلت على يدي، رفعت لأجده يبكي، كم حزنت ولعنت الظروف على قسوتها! طمأنته أن أكلمه يوميًا وأخبره عن أحوالي وقلبي يتقطع لإحساسي بذنب لم أقترفه بيدي.
أخذت معطفي وحقيبتي لأهرب من مشهد مؤلم تركته ورائي، سرعان ما لحقت بي ليفيا وفي عينيها أثر الدموع هي الأخرى، سألتها مستغربة:
ماذا حدث لك أنت الأخرى؟ يكفيني فقد امتلأت أوجاعًا وما عاد قلبي يتحمل المزيد.
ألفريدو سيعود لأمريكا، هذا ما أخبرني إياه وأنا قد تعلقت به كثيرًا، لم أكن أعرف أن الحب صعبٌ إلى هذه الدرجة.
لا تقلقي ألفريدو متعلق بك هو الآخر، من المؤكد أن أعماله هي من ستبعده عنك فترة ويعود إليك جريًا ليأخذك فهو لن يتحمل المعاناة.
هذا ما قاله لي، لكن سيطول غيابه. كيف لي سأصبر كل هذه المدة وقد تعودت على رؤيته يوميًا؟
إذًا لتفرحي، فلديك أملٌ، اضحكي.. أين هي بشاشتك التي كانت تنبعث كالشعاع من وجهك الصبوح أخيرًا ذقت مرارة الحب؟
نعم ليس هناك أمرًا منه حين يغيب عنا من نحب، أشعر بك عزيزتي لقد قاسيت كثيرًا.
معها حق ليفيا، لقد قاسيت وما زلت لأنني والمعاناة تصادقنا، فضلت أن تلازمني دون أن تمل مني ربما وجدت مطرحها بداخلي يلائمها فاستقرت فيه، وصلنا إلى مكان عملنا لنتوه فيه بعض الوقت فيرحمنا من أنفسنا.
قدري أن يكون من نصيبي طائرًا له قفص آخر غير قفصي، ربما الأول لم يجد فيه ما يرغب، فأتى باحثًا عني، ففي قفصي ذاق حناني حين أطعمته من حبات قلبي بكل حب وسقيته من نور أحداقي دون أن أبخل عليه، فاستنار له دربه كما افترشت له نفسي حتى عانقت نفسه فانتعشت روحه وشعر بعد تعب بالوجود.
كنت مستغرقة في عملي حين رنَّ هاتفي لأجده جاك وصوته كله رجاء، ورغبة في أن ألتقيه دون تردد، لم أرفضه وقد وعدته أن أعود إليه وأترك الحياة يقودني قطارها إلى حيث يشاء.