اليتيمة – الجزء (10) – رحيل جاك

You are currently viewing اليتيمة – الجزء (10) – رحيل جاك
اليتيمة سنوهويت

لستُ بخير هذا اليوم، أشعر بضيق يمزّق روحي وأنا أهمس في داخلي كيف سأتمكن من العيش دون جاك؟ لقد اعتدت على وجوده ولن أتحمل فكرة رحيله، شمسه إن غابت عن سمائي سيعم الظلام أينما حللت.

أكره الوداع؛ فالذين نحبهم لا يصح توديعهم فأرواحهم ستظل معنا، فجاك وإن ابتعد عني بحكم المسافة سيظل حبه وطنًا في أحداقي، وحلمه ساكنًا في صدري أعيش على أمله، كما أن نسمات عطره ستظل تلاحقني ما دامت قد ملأت فؤادي من قبل.

وأنا في العمل كعادتي مع الملفات أنجز تلك التي يستعجلها المدير رن هاتفي، لقد كان جاك هو المتصل أخبرني أنه يحزم أمتعته للعودة، يريدني أن أكون معه وأرافقه حتى المطار في الصباح الباكر، كنت أعلم من قبل أنه سيرحل؛ لذا لم أتفاجأ، لكن رغبتي بالبكاء والصراخ اجتاحتني، تمنيت أن أصرخ كعاصفة تهز أركان مملكة عشقنا حتى أتنفس الصعداء وأزيح حملًا أطبق على صدري.

استيقظت في الصباح الباكر هذه المرة، ليس من أجل العمل بل لتوديع جاك وحب لم يسعد ببقاء لحظاته، مر كطيف عابر. لُمتُ الوداع في نفسي بل لعنته لأنه سيحرمني من حبيبي، ارتديتُ ملابسي وأخذت فطوري بسرعة حتى لا أتأخر عليه.

وجدتُه أمام باب الفندق وحقيبته في يده، رسمت ابتسامة رغمًا عني على وجهي حتى لا أبدي حزني الدفين، ثم أخذنا عربة أجرة. لم تمر دقائق حتى كنا في المطار، أمامه ساعة لحين إقلاع الطائرة.

جلسنا نحتسي القهوة مع بعضنا البعض والصمت يخيم على أرجاء المكان، فنحن الآن في قمة الانفعال وليس أصدق من الصمت الذي قد يشفي مشاعرنا المتأثرة مما هي فيه وما تمر به من أحداث صعبة، فكما يقال الصمت في كثير من الأحيان يصبح دواءً للعاشق والمغترب.

مر الوقت بسرعة وكأن هذا الأخير مستعجل ليبعد عني قطعة مني، لم أشعر إلا ودمعة انسابت على خدي رغم محاولة تماسكي، قرب يده ومسحها بلطف مخبرًا إياي أنه لن يتخلى عني، بل سيسأل باستمرار ليطمئن على أحوالي فقد أصبحت جزءًا منه. لكني لا أعرف ما الذي حدث لي، لم أكن مطمئنة له، أحسست بفتور اتجاهه فهو لم يتأثر مثلي من لحظة الوداع.

دائمًا المرأة هي من تغلب عليها عاطفتها لطبيعتها التي جُبلت عليها؛ لهذا فهي أكثر إحساسًا من الرجل الذي يتحكم في مشاعره، إذ قليلًا ما يبوح بها إلا عند الضرورة. ربما جاك لا يريد أن يظهر ضعفه؛ لذا قوَّى شخصيته حتى يتمكن من تجاوز تلك اللحظة.

قام جاك من مكانه ليودعني، قصد اللحاق بطائرته التي ستقلع، ارتميت في أحضانه وأنا أشهق بالبكاء، لكنه اضطر للذهاب وهو يلوح بيده إلى أن غاب كليًّا عن ناظري، حلَّقتْ به طائرته فأخذ معه قلبي تاركًا وراءه جسدًا فارغًا كشبحٍ مصدومٍ من لحظة الفراق.

عدت أدراجي إلى البيت وأنا حزينة لفراقه، لقد ألفت تواجده معي كفرد من الأسرة وأحببته لدرجة أن لا أحد بعد الآن يستطيع أخذ مكانه في حياتي التي ترك فيها فراغًا كبيرًا. بات الوقت يمر عندي ببطء مما يزيد من حزني واكتئابي، لاحظت صوفي وأمي ذلك فحاولتا التخفيف عني بشتى الطرق لكن دون جدوى.

شهية الأكل فقدتها، أكلت قليلًا وبعدها صعدت إلى غرفتي رغبة في النوم، هكذا أنا كنت دومًا أهرع إلى سريري أحتمي به من نفسي ومن هواجسي التي تلاحقني كلما ضاقت بي الأحوال هروبًا من واقعي، أجد في النوم راحةً لي بعيدًا عن التفكير هذا إذا لم يزرني الأرق طبعًا، فكم أخشاه حين يتربص بي ليحرمني نعمة النوم التي فيها قد أنسى ولو لساعات أني موجودة.

النوم خاصمني كما توقعت، أخذت صورة أبي وبدأت أشكي له مصابي، وبينما أنا على هذه الحال سمعت وقع أقدام لأجد أمي بجانبي، المسكينة علمت بحالي فأرادت الاطمئنان علي.

هي الأم دائمًا كانت وستظل تلك الابتسامة الحنونة التي تنتشلك من وسط آلامك، أخذتني في حضنها واسترسلت في سرد حكاياتها الممتعة لي إلى أن غلبني النعاس لأسافر ولو لبضع ساعات إلى عالم النسيان، نسيان كل شيء؛ ما حدث، وما سيحدث، فأكيد هناك مفاجآت يخبئها لي الدهر، أملي أن لا يعاكسني حتى لا أُخذل.

أخاف من مجهولٍ يأتي ليحوِّل حبنا إلى ذكرى نتذكرها بين الحين والآخر سهوًا؛ فلقد شعرت عند وداعنا أن حبنا هو الآخر جمع حقيبته.

فثمة أشياء اختارتنا لتتحكم في حياتنا، منحتنا لحظات سعيدة مسروقة عشناها استعدادًا للحظات الفراق والشوق، فدومًا إحساسي لا يخطئ وداعي لجاك، عند رحيله أحسست فيه بشيء مختلف.

 

سميا دكالي

أقدم بين يدي كل عابر على صفحتي عصارة إحساسي مترجمة أحداثا قد أكون عشت بعضا منها. وأخرى صادفتها عند غيري, اتمنى ان تنال إعجابكم وسيكون لي شرف من سيتابع كتاباتي.