صار يغضب من كل شيء، على كل شيء، حتى الأمور التافهة تثير نقمته وسخطه، في منزله لا يفتر عن التعقيب على كل حركة، ثم ينسى انه قام بردة فعل تستحق، لا يعتذر، في مقر عمله يعلو صوته على أصوات الآلات وطلبات الزبائن، أصبحت الحياة معه لا تطاق فعزم على زيارة طبيب مختص في علم النفس،
حل باكرا بالعيادة ولم يشعر إدارة عمله بغيابه صباحا، اخذ مكانه منتظرا حلول الطبيب، تصفح جريدة فلم يلث أن رماها جانبا، ترجل نحو شرفة، تناول سيجارة وأخذ منها أنفاسا طويلة متتابعة، تفقد هاتفه المحمول وأخبر مديره بأنه مصاب بوعكة صحية مفاجئة وانه سيمده بشهادة طبية بعدما يعرض حالته على الطبيب، اخذ مكانا آخر، صار يحملق في شاشة التلفاز بدون تركيز، صرخ في وجه طفل جالس على ركبتي أمه يصدر بكاء متقطعا، لم يعتذر ابدا، غطى وجهه بكفه وصار ينتحب، بعد نصف ساعة نادت المستقبلة على اسمه آذنة له بالدخول إلى حجرة الفحص، جلس متقابلا مع الطبيب ومن دون مقدمات بادر بالقول :
_ أعتقد اني مريض، اغضب بسرعة مخيفة.
تمعن فيه الطبيب جيدا مبتسما فعقب :
إدراكك بالمرض بشارة جيدة، يعني أنك تريد العلاج، والعلاج مضمون، انت ناقم على نفسك إذن، جيد، هيا إلى سرير الإنصات وكن صريحا وشجاعا.
بعد عدة أسئلة تخص أحواله الاجتماعية والمادية والمعنوية شعر بسكينة تغمر داخله و بهدوء يعم نفسه، لقد أفرغ مايعاني منه كما لو كان يخزن شحنات كهربائية، ترجل الطبيب إلى مكتبه، صار يكتب وصفة الدواء وهو يقول :
_ ياسيدي، نفسيتك ممتازة جدا، ماتتعرض له هي حالات تنتابنا جميعا، لكن لا أخفيك سرا، مرضك أكبر من هذا، دعني أصارحك، انت مصاب بالخرف المتقدم وهو على بعد خطوة من
مرض الزهايمر، جئت متأخرا، لكن إذا تبعت نصائحي وكنت صارما في تناول الدواء ربما لن تدخل في حالة اكتئاب سابق للزهايمر، انت الآن تنسى بسرعة.
ذهل الرجل وكاد ان يغمى عليه، أراد النهوض لمغادرة مكتب الطبيب فلم تسعفه قدماه على ذلك، وبعدما أرجع قليلا من توازنه النفسي وغالب الصدمة الأولى تحامل على نفسه وهم بالمغادرة، قال له الطبيب برنة صوت خافثة :
_ امر آخر أحب أن أؤكد عليه، لا تخبر أحدا بنوع مرضك ولا حتى بأنواع الأدوية، سأعطيك شهادة العجز عن العمل لمدة ثلاثة أيام، وقبل استئنافك لعملك قم بزيارتي اولا، اتفقنا؟.
غادر الرجل متثاقل الخطوات وهو يهمس :
اتفقنا يا أم محمود، عفوا اتفقنا يا دكتور، اتفقنا، أمري لله.
توجه أبو محمود إلى أقرب صيدلية، اخذ الدواء، هاتف زميلا له لزيارته عاجلا وايصال الشهادة الطبية إلى قسم الموارد البشرية، صار مترجلا في شارع طويل يتكلم كالمجنون :
_ هل انا مصاب بالخرف ومهدد بالزهايمر؟، انا مكلف بقسم بالحسابات، وكل شيء على مايرام، لم تعثر إدارتي على أية هفوة، لم أنس أمرا من مسؤوليتي، انا الآن اتذكر جيدا، هاه، التحقت بالعمل في خمسة وعشرين من شهر مارس من سنة ألف وتسعمائة وتسعين، تزوجت بعدها بسنتين، خلفت ابنا اسمه محمود وبنتا اسمها سهى، صهري اسمه عباس، حماتي اسمها هنية، والدي رحل إلى دار البقاء سنة الفين وأربعة، والدتي رحلت بعده بثلاثة سنوات وستة شهور، اتذكر جميعا الاحداث العالمية بتواريخها، الحرب العالمية الأولى سنة الف وتسعمائة وأربعة عشر، والثانية سنة الف وتسعمائة وثلاثة وأربعين، النكبة عام ثماني وأربعين، النكسة عام سبع وستين، تعشيت بالأمس كفتة مصلية وشربة خضر، صليت فريضة الفجر اليوم جالسا، أحسب جيدا، هاه، واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة، سيجارة، سبعة، عفوا ستة، سبعة….. ، ياربي لماذا ذكرت السيجارة بدل رقم ستة؟
صحيح، ربما دخلت في مرحلة الزهايمر، ساعتكف في منزلي، لن اغضب، لن انقم، لن اتكلم إلا ناذرا، ساتبع وصفة الأدوية وألعب، عفوا أستريح، سأستريح، الحياة لا تستحق كل هذا الطبيب، عفوا كل الحذاء، عفوا لا تستحق كل هذا العناء.
مكث ابو محمود ثلاثة أيام في منزله لا يبرحه، كان شخصا وديعا، هادئا، لا يحدث أهله إلا لماما وبكامل اللطف، يبكي خفية ويبتسم علانية، يردد الأذكار، يستعرض جدول الضرب، يتذكر الماضي، يتناول الدواء بصرامة متناهية.
حل يوم عيادة الطبيب، استيقظ باكرا، حلق ذقنه، لبس أحسن الثياب، تعطر، كان أول من أخذ مكانه بالعيادة، تصفح جريدة الصباح، صار يستلطف المرضى ويوزع ابتسامات بدون قيود، نودي على اسمه، وجد نفسه امام الطبيب الذي بادره هذه المرة :
_ ايه، صديقي كيف حالك الآن، أراك في أفضل حالاتك، أليس كذلك؟.
عقب ابو محمود :
_ نعم دكتور، أشعر وكأني إنسان آخر، لكن بعدما أسمع منك عن وضعي الصحي، وعن الخرف والقرف والزهايمر والزمايمر.
أصدر الطبيب قهقهات مدوية امام اندهاش أبي محمود فقال :
_ صديقي، بعدما عاينت حالتك النفسية قبل ثلاثة أيام أدركت انك شخص قوي، مثابر، مؤمن بالله، وانك تغضب على أتفه الأسباب مع انها لا تستحق، وبما انك كذلك اوهمتك بأنك مصاب بالخرف المتقدم المؤدي إلى الاكتئاب الحاد كحالة أولى للزهايمر، اردت أن أشغل بالك بما هو أسوأ لتتجنب السقوط في الأمور التافهة، وتأكد صديقي أني لو ما وجدتك تتحمل كل هذا ما اقدمت على هذه الخطوة، يا صديقي لا تعطي للأشياء أكثر مما تستحق، الأدوية التي وصفتها لك عبارة عن فيتامينات ومنبهات فقط لتدرك انك تتحسن في مرضك، انك شخص سليم وغير مصاب لا بمرض نفسي ولا بالخرف غير مهدد بالزمايمر عفوا الزهايمر.
ضحك ابو محمود ونهض بكامل نشاطه قائلا :
_ دكتوري الشجاع الجميل، يجب أن تحذر انت من الزهايمر، لقد نطقته بالزمايمر ههههههه، شكرا لك، ساتوجه راسا إلى عملي، لقد اشتقت إلى زملائي الطيبين، فعلا الأمر الأسوأ ينسيك في الأمر السيء.
جمال عتو