تتساقط أوراق العمر وتهرب منّا السنين فنهرع إلى دفاترنا القديمة وسجلاتنا المهترئة، عسأنا نسترجع بعض الذكريات العالقة نستعيض بها عن واقعنا المهزوم المثخن بالجراح والآلام.
هكذا كان’ أبو نضال” يقضي جلّ أوقاته بعد أن أحيل على التقاعد، وكم كان يروق له الجلوس وحيدا في شرفة غرفته المطلة على الشارع الرئيسي للحارة التي أسكنها.
كان “أبو نضال”رجلا طيّبا أحبّه جميع أهل الحيّ لدماثة أخلاقه وحسن معشره، وبلاغة لسانه عند الحديث، لكنه كان شديد الميل إلى العزلة والإنطواء، وكانت ملامح الحزن والأسى بادية على وجهه رغم الإبتسامة المصنعة التي تعلو محيّاه.
كان يقضي الساعات الطوال بعيدا عن الجميع حتى أننا نقضي أياما دون ان نراه، فندقّ بابه للسؤال عن أحواله أو لقضاء بعض حاجياته، وكلما ٱفتقدناه رفعنا رؤوسنا إلى شرفته فرأينا دخان سجائره محلقا في الفضاء فتأكدنا من سلامته وٱطماننا على صحته.
كم يروق له الجلوس في الشرفة يرتشف قهوته المرّة، ويراقب المارة في هدوء وسكينة منتشيا بسيجارته حتى يصّاعد الدخان فوق هامته، فتتحول الشرفة الضيقة إلى سماء مكفهرّة تعلن موعد ٱنهمار المطر وهبوب العاصفة، عندها تتقد أفكاره وتنحبس أفكاره برهة من الزمن ليشرع في الحكي، وكم كان يحلو لي ان أسترق السمع من شرفتي في الطابق السفلي، فأنتشي بسماع صوته وهو يردد نشيج الروح أو يسرد بعض ذكرياته بصوته المتهدج الذي يقتحم شرفتي.
قال: وهو يكتم حزنا دفينا أحسسته من نبرة صوته ودمعة حرّى أدركتهامن خلال النشيج الذى صاحب صوته.
” تزوجت عن قصّة حبّ دامت خمس سنوات تحدّينا فيها العراقيل والصعاب ولم نيأس يوما حتى كلّلت بالزواج، فعشنا أجمل معاني السعادة والمودّة وقرّرنا أن ننسى الماضي باوجاعه. وكنّا مثل كلّ زوجين ننتظر ثمرة هذا الحبّ العظيم، مرّ العام الأوّل فالثاني والثالث ولم نرزق بمولود، وبدأ القلق يدبّ في نفوسنا والحيرة والهواجس تساورنا، إلا أنني لم أشأ أن أظهر رغبتي في أن يكون لي ولدا بعد هذه السنين، حتى لا أزيد من حزن زوجنتي التي أضحت كثيرة الحزن والشرود بسبب ما تسمعه من أحاديث النسوة اللّواتي اتهمنها بالعقم، فتلجأ إليّ باكية حزينة فأحاول تهدئتها و التخفيف من ألامها بسبب ما تسمعه من أفكار مسمومة، ثمّ ٱتفقنا على زيارة الطبيب المختص ومرّت السنين تلو السنين بين صبر وعلاج و ٱنتظار، ولما بلغنا عامنا العاشر جاءت البشرى وأعلمتني زوجتي بانها حامل في شهرها الأول، كانت سعادتي لا توصف وكذلك زوجتي، وحاولت أن أجعلها أسعد إمراة في الكون حتى بلغت الشهر التاسع، فصارت غير قادرة على أعباء المنزل فتكفّلت بجميع الأعمال من أجل سلامتها، لكن حالة زوجتي تزداد سوء يوما بعد يوم، وكم كان حزني عظيما عندما أخبرني الطبيب أنّ حياتها في خطر وأنّ هذا الجنين لن يرى امّه بعد الولادة. كتمت حزني ولم أخبرها بشيء و قلت: إنّ الأعمار بيد الله وليست بيد هذا الطبيب.
وذات صبيحة أفقت على صراخ زوجتي الذي كاد أن تنشق له السماء، أخذتها على عجل إلى المشفى لتكون في رعاية ثلّة من الأطباء الذين أجمعوا على عسر الولادة وخطرها على حياتها، ٱستجديتهم وقبلت أيديهم وأرجلهم حتى تظل زوجتي على قيد الحياة ولا رغبة لي في المولود، فطمأنوني وقالوا بأنهم سيحاولون، ثم أخذوها إلي غرفة الولادة فٱنقطع صوتها إلى الأبد و لم ير ٱبني النور “
الكاتبة لطيفة حمدي / تونس