كان الليل قد جثم على الكون وأسدل ستاره معلنا هدوءه لترتاح الأنفس من عناء الحياة وتتحرر أرواحها من سجنها الى عالم الأموات، إلا أمل مازالت لم تذق طعم النوم كانت سارحة بخيالها الى استرجاع شريط ماضيها، حاولت طرد التفكير المستولي عليها فلجأت إلى مخدتها وكأنها تستنجد بها لتريحها من ذاك العناء، بحنان ترجتها أن لا تقلب عليها المواجع بل تسافر بها إلى اللاوعي حالما تلقي بخدها عليها.
جالت بنظرها أرجاء البيت ليتوقف نظرها على تلك الغرفة التي كم ضجت بالحركة في مثل تلك اللحظة، حيث صوت الموسيقى الصاخبة يتسلل منها فتقلق راحة كل من في البيت. تناديه راجية إياه أن يخفض الصوت فأخته تدرس استعدادا لاجتياز الامتحانات، يمتثل لأمرها لبعض الوقت ثم لا يلبث أن يعيد فعلته.
تمنت أن يرجع بها الزمن إلى الوراء، وأن يُرفع صوت الموسيقى إلى أن تخترق جدران البيت ليس الغرفة فقط، المهم أن تعود الحياة من جديد، لقد رحل عنها الكروان الذين كان يصدح بالأمل والتطلع الى الأفق ويملأ الأرجاء بالنغمات.
دمعة متحجرة أبت أن تنزل من مقلتيها بعد أن صُدمت بفقده، ليترك أمه وأخته الوحيدة فريسة الزمن، لقد كان سيد البيت بعد ترمل أمه التي ضحت لأجل تربيته وأخته، لم يكن يكفي الراتب الذي تركه لها المرحوم زوجها، مما اضطرها إلى العمل في معمل للخياطة حتى تلبي حاجيات الحياة.
لن تنسى ذاك اليوم الذي زاره صديقه المقرب سمعته يهمس إليه أن يستعد خلال يومان للهجرة عبر قارب النجاة كما يقال، بكت تلك الليلة ورجته أن يعدل عن فكرته، ويعمل في بلده أي عمل حتى يظل بجانبها، لم يستمع إلى كلامها ونفذ ما تلته عليه نفسه، رحل عن الغرفة والبيت دون عودة لم تسمع عنه أي خبر بعد رحيله، مجرد شائعات فمن قال أنه مات غرقا مع من في القارب، ٠وآخرون قالوا أنه قد نجا. حتى الساعة لم تتوقف على الحقيقة المطلقة، مادامت جثته لم يُعثر عليها من بين الجثت التي ألقى بها البحر على الشاطىء.
وجع سيظل يرافقها بل ساكنا معها بجانب غرفتها كلما رفعت نظرها الى المكان الذي كان يأويه، حتى أنها لم تدخل إلى غرفته لحد الساعة، ما طاوعها قلبها والكروان لم يعد يسكنه. أخته من تنظفها وترتب كل شيء كما كان في مكانه فالأم مازالت يشع بين جنبيها بصيص أمل يخبرها أن ابنها قد يعود من هناك حيث حلم أن يذهب ويحيا.
تلك ضريبتها ستؤديها ليست أمل فقط بل كل الأمهات الثكلى اللواتي عشن نفس المأساة. أكيد البلد هي المذنبة هذا ما ظلت تردده بينها وبين نفسها فلو هيأت لهم سبل الحياة ما فكر أحد في تركها ولا ترك ترابها الذي عليه خطىى خطواته ألاولى.
سمبا دكالي