حدث ذلك منذ زمن بعيد، في أحد تلك الأيام الصيفية،عند الظهيرة، حين ترتفع درجة الحرارة لتبلغ ذروتها.
بدأ المسافرون يتقاطرون الى المحطة، جماعات وفرادى، محملين بحاجياتهم التي إبتاعوها من أسواق المدينة، ليجدوا الحافلة في ٱنتظارهم.
“حسان ” هو آخر من صعد الدرج واقتطع تذكرة، ثم ألقى نظرة تقص بحثا عن مقعد شاغر:
“إني أراه هناك ذلك المقعد الخلفي. سأركن اليه طلبا للراحة من تعب السفر وطول الطريق . “
يشغل السائق المحرك الذي ٱنبرى صوته مدويا كزئير أسد يتردد صداه في أعماق الغابة. يمضي وقت قصير تندفع على إثره العربة مغادرة المكان وسط جلبة الركاب وهزيز المحرك وصخب الشوارع وضغط الحركة المرورية، ثم ما تلبث أن تندلف وسط الطريق الرئيسية في ٱتجاه الجنوب مسرعة تطوي المسافات تلفحها رياح الهجيرة بلهيبها الحارق المستعر.
يمضي وقت تهدأ فيه الأصوات إلا من هدير المحرك الصاخب، المدوي …
يسند “حسان” رأسه الى البلور متأملا غابات الزيتون وهي تفر من أمام عينيه قبل أن يغمض جفنيهما النعاس ويغرقهما في النوم ..
أما زلت تذكرني يا “حسان”؟ أنا أخوك
“برهان ” .
آه يا أخي ! لماذا غبت وتركتني في منتصف الطريق؟
لا أعلم يا أخي .. لكنني بت على يقين من أن الطريق صعب…
ماذا تقول ؟ لم أفهم .إنتظر يا “برهان”. أرجوك أخي، إنتظر ! إلى أين مضيت ؟
وٱنتفض ” حسان ” من مقعده مذعورا.. مازال يذكر تلك الحادثة الأليمة التي أودت بحياة أخيه”برهان” وهو يؤدي عمله اليومي بميناء المدينة التي نزح إليها .. ظل الفتى يحمل الأكياس على كتفيه وهي معبأة بمبيد الحشرات الضارة، فتناثرت منها ذرات غباره الخطير، وتسربت إلى أعماق جسمه لتصيبه بتسمم قاتل.. مات “برهان” متأثرا بطعنة الحاجة والفقر، وٱنعدام التأمين المهني، والإسعاف الطبي .. مات بعيدا عن عائلته التي أتاها الخبر ذات مساء، فلم تصدق ماجرى، وٱعتصرها الوجع، وصفعتها المأساة، وأدمى قلبها جرح نازف من الصعب أن يندمل وأن تمحى آثاره ما بقي الزمن .
نظر “حسان ” حوله ، فإذا الركاب صامتون، والعربة تواصل تسللها وهي تعرج إلى الطريق الترابية،مهتزة ، مضطربة، متجة صوب تلك القرية الجبلية البعيدة، المثقلة بصمت الكآبة، والهموم، والصبر الطويل …
الكاتب الهادي نصيرة/ تونس