هكذا عرفتها كان إسمها أمل كلما حنت للرجوع بذاكرتها إلى الوراء اختلت بذاتها متخذة مقعدا لها في شرفتها. لا لشيء سوى لأنها تكون على درجة لا توصف من الاطمئنان، وهي ترفع عينيها إلى السماء، بعد أن يئست من ذاك الوجود المحيط بها وما يوحيه لها من غربة. تتساءل بينها وبين ذاتها كيف للزمن أن يقطع بها كل تلك السنين دون أن تشعر بمرور الأيام ؟ فوقفتها هذه كم ترددت على نفس المكان، لكن كل مرة تكون مختلفة عن سابقتها، هذه المرة تسترجع فيها ذكريات طفولة غير عادية.
كانت طفلة خجولة وطموحة لم تكن تحب الضوضاء ولا اللعب كثيرا. عاشت تبحث عن أي ركن لتنزوي فيه بعيدا عن عالم الذي كان يبدو لها غريبا، تنفرد مع القصص القصيرة التي غالبا ما كانت تجد فيها متعتها. اصطدمت بمشاعر مختلفة بين حنان دافق من أم قلبها عامر بالحب والدفء، وبين صرامة أب الذي لم يبد يوما لها ولا لأخواتها وإخوانها أية مشاعر حب وعطف اتجاههم. مما تولد لديها مع مرور الأيام فقد لأجمل مشاعر احتاجتها في كل مرحلة من مراحل حياتها.
نعم هو فقد للأمان الذي حلمت به وتمنت أن يكون منبعه حضن أبيها. بحثت عنه بعيدا لتجده عند عم لها ، وكأنه شعر بها فما بخل عليها المسكين. لن تنسى مساندته لها في كل خطوة خطتها في حياتها، حتى دراستها وهي صغيرة مازالت تسمعه وكأن ذلك فقط البارحة، وهو يردد معها الحروف بالفرنسية.
ما كان يعزيها أنها تعلم أن الحياة قد تأخذ من الانسان ما لم يكن يتوقعه ولكن بالمقابل قد يُمنح بالمقابل الأفضل، فالله عطاياه تأتي في أوقاتها، لأنه أدرى بالتوقيت الذي نكون فيه في أشد الحاجة إليها. أكيد أمل كانت تحتاج لعمها في مرحلة طفولتها، حتى تكبر ونفسيتها متزنة وطبيعية، ربما توصل هو إلى كونها غير الآخرين لحساسيتها الزائدة. ذلك احتواها حتى يعلمها ويتركها بعدها للحياة تتعارك معها دون خوف.
لن تنسى حبه للبحر وهي مازالت تتذكر أول عطلة صيف قضتها برفقة أسرته، كانت أجمل الأيام مازالت راسخة بجدار ذاكرتها. وخصوصا أنه اختار ليكون بعيدا عن الزحام، ليس لأنه لم يكن يحب الناس، بل بالعكس فكم عاش قضاياهم واهتم بشؤونهم. لكنه مع البحر كان يحب الاختلاء والتحدث إليه.
تعلمت أمل منه التأمل، حتى صار بينها وبين الأمواج حديث لا ينقطع. وهي معها تخبرها عن حياة توجد في أعماق البحر حيث تصور لها عالما آخر يضم أغرب ما خلقه الله، وعن أرواح ابتلعتها. كما تحدثها كم مرت بواخر فوقها لتعبر إلى الجهة الأخرى. وعن نوارس وغنائها التي تردده وهي في الأعالي ترفرف بأجنحتها، ناعمة بحريتها وبالها خالي من كل ما قد يكدر صفوها. كم غبطتها وتمنت لو كانت مثلها وطارت إلى ما لانهاية. ارتباطها بعمها ما كان سوى لذاك الاحساس الذي اتفقا فيه اتجاه حبهما للطبيعة وخصوصا مع البحر وحديثهما المستمر.
تعلم أنه رحل عن هذا العالم لكن روحه مازالت تستشعرها وكأنها تخبرها أن لا تحزن، فقد وجدت أيضا هناك في عالمها أجمل ما عشقه وتمناه يوما ماؤ وهي واقفة أمام البحر تحدثه عن تلك الأمنيات.
سميا دكالي