لا أصعب من زمن بتنا نحياه في غربة بعدما انعزلنا عن حياتنا الطبيعية دون أن نعي بذلك، قد لا يرى البعض ما آلت إليه أوضاعنا مادامت أن أغراض حياتهم اليومية قد استُوفيت حقوقها، وكأنهم بُرْمجوا على ذلك ليعبروا أيامهم ويستمتعوا بها دون إحساس وإن لم تكن ملائمة لرغبات أنفسهم الباطنية.
فنفس الإنسان لن تعرف التوازن ما لم تتوصل إلى معاني الارتباط الذي يربطها بين كل ذرة في الكون، وما لم تفقه موحيات كل كائن فيه لتقرأه وتحسه فتنمو عندها ملكة الإحساس، تلك التي لن تجدها إلا عند سماع تغريد عصفور صغير يحاول فرد جناحيه لأول مرة، معبرا بلحنه عن فرحته للفرصة التي أتيحت إليه حتى ينضم إلى سربه ويكتشف العالم الساحر ذاك الذي يمثله الأفق، أو عند حفيف ورقة خريف ذابلة وقد أُسْقِطَتْ من منبتها بعد أن اسْتَوْفت عمرها وكأنها تودع تلك الأرض لتبدأ حياة أخرى أبدية، أكيد ستتمثل له بوضوح بذلك رواية الحياة عند أول فصل لها وآخر فصل انتهت فيه، والأسمى من ذلك فلن تسعد وتسمو ما لم تصادف من تقرأ أسرارها الخفية وما تحمله ثنايا نفسها.
كل ذلك لن تدركه النفس إلا وهي بين أحضان الطبيعة تنعم بما فيها وتتأملها بصمت، فهناك أشياء لن تتذوقها إلا بالإحساس الذي قد يسبق المنظور ليملأها حبا وشعورا ويكسبها طهرا وصفاء، فتصبح ترى كل شيء يسبح في عالم النفس والوجود وإن لم تجسده الألفاظ وتحركه الشفاه، وكأننا بذلك ننقل ما تخفيه الأرض من مكنونات للسماء، أو نتلقى ما ترسله لنا تلك الأخيرة إلينا بالتأمل الذي فطرنا به الخالق، لا لشيء فقط لنغوص في بحر الطمأنينة والسكينة ونحن نمخر عباب أحلامنا بسفينتنا.
سميا دكالي