أكاد أجن من فرط الهدوء الذي يفرضانه علي.
ينزويان في غرف بعيدة في آخر الرواق ،ويطوقانني بعزلة قسرية وسط بهو المنزل الفسيح!
أجالس التلفاز على مقعدي وحيدة ،افتل ضفائري،ثم أنقضها من فرط الملل.
وأطالع ساعة الحائط الرتيبة،
أستجديها اختزال بضع ساعات، كي تحل التاسعة مساء سريعا.
باسمة وجواد ..
حفيداي الصامتان ،يفضلان الولوج إلى عالمهما الإلكتروني، بعيدا عني.
يعودان ظهرا من المدرسة، فلا أسمع سوى طقطقات نعليهما، وعبارة موحدة يلقيانها على مسمعي كالببغاوات على نحو يومي..
مساء الخير يا جدة
قبلة على اليمين، وقبلة على اليسار.
ثم ذلك الصمت الموحش، وهدوء وحدتي الممتد إلى آخر المساء، في انتظار حضور أمهما من العمل.
لم أصنع لهما كعك الزبيب، ولا يروق لهما شراب
يتهربان من سماع القصص ..
لا يعجبهما الشاطر حسن، ولا سندباد بطل العجائب!
سلباني حقي في الضجيج، ودفئ الأمسيات ، حول طاولة الخيزران العتيقة.
لم يجربا دلال الجدة..
كنت أفعل ذلك مع جدتي .. اشاكسها و أخوتي في ليالي السمر ، تحت أضواء قناديل الزيت الخافتة.
تسمينا عصابة المجالس المدمرة، وتضحك من انعكاس ظلالنا المرح على الحوائط.
تسقينا أكواب القرفة الدافئة، وتقول دوما أن القرفة تقاوم الإنفلونزا الموسمية..
قلت ذلك لباسمة وجواد أيضا، لكنهما سخرا مني وقالا ..
لا يوجد في محرك البحث “غوغل” ما يثبت ذلك عن القرفة!
الأحمقان!
استبدلا دفء العائلة بمحرك بحث بائس، واستبدلا قصصي وأحضاني بأجهزة إلكترونية، باردة المعدن والمعنى.
يفضلان الصمت وخصام الأجيال .. يدخلان مدن الأشباح اللاسلكية، التي لا ذاكرة لها ،ولم يدركا أن ضجيج العائلة هو الذكريات.
كوب القرفة الدافئ ،أمامي على الطاولة الآن ، صنعته كي يؤنسني عِوضًا عن صمتهما ،فما زالت الشمس تعاند الزوال و مجيء المساء..
رشفت منه تحسبا لنوبة زكام قادمة، واحتماءً من برودة المشاعر.
طعمه لذيذ بالفعل.. جدتي كانت على حق.
عزيزي “غوغل” تبا لك .
الكاتبة د.ندى مأمون إبراهيم. السودان