ثمن الخاتم

You are currently viewing ثمن الخاتم
ثمن الخاتم

من أجل ذلك البريق الذي اخترق قلبه شد الرحال إلى بلاد الغربة، لم يكن غاليا عليه لو طلبت منه أن يضحي بكل شيء من أجلها وهي من استحوذت على مشاعره كلها. شرد أحمد بذهنه وهو يستعرض سنواته الأخيرة التي عاشها يسترق النظر من الشرفة إلى نافذة بيتها المقابل لهم، ليرى ذلك الوجه الصبوح وتلك العينين الجميلتين وبريقهما الذي ملك قلبه.

لم يجرأ أن يطلب يدها الآن فهو ليس على استعداد ليوفر لها العيش الذي يليق بجمالها وأخلاقها، لقد كانت وحيدة والديها تعمل على خذمتهما دون ملل، فكم راقبها أحمد من بعيد وهي تهتم بأمها المريضة فازداد تمسكه بها.

لقد عزم بعد تفكير على إتمام دراسته خارج البلاد من أجل ضمان مسقبل يمكنه من بناء عش الزوجية وامتلاك من سلبته قلبه.

وقف هذا المساء في شرفته يترقب مرورها كالعادة وإمتاع نفسه ولو بنظرة منها قبل أن يسافر غدا، لاشيء اليوم غير قطرات المطر التي كان يسمع صوت زخاتها مما يزيد وقعها على قلبه حنينا وشوقا إليها. لم تفتح نافذتها لقد حز في نفسه ذلك، فكيف سيغادر وهو لم يتمكن من رؤية بريق عينيها لآخر يوم له هنا؟ كان يحتسي مشروبه الساخن وخياله مبحر في ملامحها التي شغلت تفكيره حتى سجنته.

فتح عينيه على أول خيوط ضوء الفجر لينهض مسرعا ومودعا أهله وأيضا شرفته، آملا أن يعود ومعه الخاتم الثمين المناسب لها، ما يخشاه أن يسبقه أحد ليتزوج بها إلا أنه فوض أمره لله.

ماهي إلا ساعات قطعها في الجو ليجد نفسه في بلد غير بلده لقد ترك قلبه وذكرياته هناك، الآن هو غريب عليه أن يكافح ويصبر من أجل تحقيق أمنيته ويعود بالخاتم الذي حلم به لحبيبته.

تمر السنون جريا وتنطوي الأيام مسرعة ليتمكن أحمد فيها من مجابهة ذلك الإعصار المتمثل في الغربة والوحدة رغم رياح الشوق التي كانت تعصف بقلبه، لم تكن تصبره على المواصلة سوى أمه وهي تطمئنه على أن محبوبته ما زالت لم تترك أهلها. قرب موعد رجوعه إلى بلده لقد اشتاق لتربته ولعيون حبيبته، حصل على شهادته المشرفة كما تمكن من جمع أموال لا بأس بها بعد كد ودراسة مكثفة لم يذق طعم الراحة يوما، الآن سيستريح من ذاك العناء.

قرر قبل أن يجمع حوائجه بيوم أن يشتري الخاتم الذي طالما تخيله، جال أحمد كل المتاجر إلى أن عثر على مطلبه، لقد كان خاتما رائعا يأخذ عقل كل من رآه وضعه بحرص في مكان داخل حقيبته والفرح يملأ قلبه.

أخيرا عاد إلى وطنه الحبيب توالت طرقاته على الباب لم يخبر أهله باليوم الذي سيرجع فيه، لقد أرادها مفاجأة لهم، فتحت الأم الباب لتجد إبنها أمامها لم تشعر إلا وقد ألقت بثقلها في حضنه تقبله وهي تبكي، جلس أحمد مع أهله بعض الوقت بعدها نهض متجها نحو الشرفة لتتبعه أمه وفرائصها ترتجف خوفا على إبنها. كم كانت صدمته حين وجد النافذة مغلقة بإحكام والظلام يخيم على البيت، وقد بدا له مهجورا يشبه الأطلال كأن لا أحد يسكنه.

التفت إلى أمه ليجدها جامدة في مكانها تملكه القلق فأرغم أمه على سرد له كل ما وقع مؤخرا، أخبرته أن الفتاة تزوجت في الأسبوع الماضي من أحد معارف أهلها وانتقلوا من هنا لمكان آخر. كم كانت الصدمة قوية على قلبه أوقعته أرضا وأسكتته أياما وهو طريح الفراش، يعاني من سعادة غابرة لم يكتب لها أن تكتمل، أحس أن أحلامه التي بناها أمام نافذتها قد أذرتها الرياح.

لقد اغترب المسكين وهاجر في رحلة البحث عن حياة وسبيل للنجاة ليسلك طرقا مختلفة، طرقا معبأة بالضباب والغربة الموحشة، كانت على وشك أن تنقشع له الرؤيا لكن القدر لم يمهله حتى يقدم لها الخاتم، بل كان أسرع منه حين اختار له طريقه فدفع ثمنه غاليا.

كما اكتشف بعد فوات الآوان أن السعادة التي اغترب لأجل الحصول عليها خذلته حين لم تنتظره، بل ولت ظهرها عنه غير آبهة به، هو القدر انتصرعليه وقتل فيه أروع المشاعر التي كان يحملها بداخله، أكيد سيعيش الآن جسدا بلا روح فقد سلبتها إياه فتاته التي ستبقى ملتصقة بجدار ذاكرته.

سميا دكالي

أقدم بين يدي كل عابر على صفحتي عصارة إحساسي مترجمة أحداثا قد أكون عشت بعضا منها. وأخرى صادفتها عند غيري, اتمنى ان تنال إعجابكم وسيكون لي شرف من سيتابع كتاباتي.