أغلقت نافذة الشرفة بسرعة وتراجعت إلى الوراء وكأنني شاهدت شبحًا، جلست أفكر في الغريب لماذا يتتبع خطواتي حيثما ذهبت؛ ربما قلبه قد تعلق بي أكيد هو يفكر في طريقة للتقرب مني، حاولت أن أضع حدًا للأفكار التي أقلقت راحتي ولم تترك لي مجالًا للعمل، فأخرجت الملف الذي كنت بدأته لأنغمس فيه.
بقيت منشغلة فيه دون أن أرفعَ رأسي إلى أن سمعت زخات المطر وهي ترطم زجاج النافذة، هرعت صوبها ففتحتها لأتمتع بقطرات المطر وهي تهطل محدثة موسيقى جميلة.
ألقيت النظر على المقهى، لم أجد الغريب هناك، ربما رحل بعد أن يئس. عدت إلى مكتبي حزينة وكأن جزءًا مني قد سُلب، لمت نفسي لعدم اهتمامي به وإعطاءه فرصة اللحاق بي، قررت حينها أن أنساه وأهتم بشؤوني وكأن شيئًا لم يكن.
جاء وقت الاستراحة الذي تحضر فيه ليفيا عندي إلى المكتب لنتناول وجبة غذائنا، غالبًا ما تكون عبارة عن سندويتشات من المطعم المجاور لمكان العمل، أكلف صديقتي بشرائها بحكم أنني مساعدة المدير؛ لذا لا يسمح لي بالخروج مثلها. كنت جائعة؛ لمرور وقت ليس بالهين وأنا أعمل فيه، طرقت ليفيا الباب فاستأذنتها بالدخول.
– ليفيا كيف حالك صديقتي؟ جئت في الوقت المناسب فعلًا أنا جائعة.
– من الجيد أنك جائعة، خلت أنك لن تأكلي مثل البارحة عند خروجنا، قلقت عليك لم تكوني مثل ما أعهدك.
– ما بك أنت أيضًا؟ تكفيني ماما وصوفي، فقد أتعبتاني بكثرة الأسئلة وقالتا أني لست بخير.
– إذًا لست أنا الوحيدة من لاحظت ذلك، المهم لتظلي على راحتك فسوف تخبرينني طال الزمن أو قصر.
– كفاك ثرثرة، ضعي الأكل واتركيني أستمتع به.
– أخاف أن تأكليني، الحمد لله أنك استعدت شهيتك.
تناولنا وجبتنا وضحكنا معًا إلى أن انتهت مدة الاستراحة ليعود كل منا إلى عمله، كنت قد نسيت فيها ذاك الغريب لبعض الوقت، انهمكت في الملفات إلى أن حان وقت الخروج.
حملتُ حقيبتي وارتديت معطفي، لفت نظري عدم توقف المطر بل ازداد هطوله بغزارة وأنا المسكينة لم أحضر معي مظلتي، تمنيت أن تكون ليفيا قد جلبتها حتى لا نتبلل. مررت عليها لكن لم أجدها في مكتبها، أخبروني أن أمها هاتفتها لأن أباها مريضٌ فأسرعت إليه.
لعنت الحظ السيئ في نفسي، أعلم أني مخطئة فكم عاتبتني أمي وكذلك صوفي على تهوري، يذكرانني بأشيائي لكن دون جدوى، تسرُّعي يجعلني أقع في مثل تلك المواقف.
بقيت على باب المبنى أنتظر توقف المطر، لكن ازداد هطوله واكفهرَّ الجو أكثر. أخيرًا قررت الذهاب تحت المطر، صحيح أحبه لكن ومعي مظلتي، أما الآن من المؤكد أنني سوف أصاب بالزكام.
وبينما أنا أمشي مسرعة دون توقف، إذا بي أسمع أحدهم ينادي باسمي، هو صوت رجل؛ إذًا ليست ليفيا.
– آنسة ماريا توقفي سوف تتبللين.
ذعرت من شدة المفاجأة، لقد كان هو ذاك الغريب! أتاني حاملًا مظلته، لم يكن بوسعي التردد في قبول المساعدة، صافحني بيده وظل ممسكًا بي حتى شعرت بدفء وحرارة تسري في جسمي أنستني البرد والمطر.
تركته يرافقني وأنا بجانبه تجمعنا مظلة واحدة، لم أتكلم طول الطريق وكذلك هو. أحسست وأنا معه كأنني أعرفه منذ زمن، كنت أسترق النظر إليه دون أن أرفع رأسي، جذبتني أناقته وعطره المميز الذي غمر أنفي، أكيد سأتعرف عليه هذه المرة من رائحته وإن لم أبصره.
أوصلني إلى بيتي، مدَّ إليَّ يده وعرفني بنفسه مانحًا إياي بطاقة بها رقم هاتفه، وطلب مني رقمي، لم أتردد بل ناولته إياه. لم يطلب مني أكون رفيقته، لكن نظراته أفصحت عن ذلك، أحيانًا يكون الصمت أبلغ من الكلام، فيه يقال كل شيء وإن لم نبح به.
ودعته شاكرة إياه على معروفه ودلفت إلى المنزل لأجد أمي تنتظرني بلهفة، فقد عرفت أني لم أحمل معي مظلتي؛ لذا قلقت علي، ألقيت عليها وصوفي بسرعة وأنا فرحة، فأثار استغرابهما تغير مزاجي بين ليلة وأخرى.
صعدت إلى غرفتي لأغير ملابسي، نظرت أولًا من شرفتي لأجده ما زال واقفًا هناك، لمحني فابتسم لي أجبته بابتسامة مثلها وودعته ملوحة بيدي، انتظرته حتى غاب عن رؤياي وكلي أملٌ أن ألقاه مرة أخرى، بل مرات عديدة؛ فهو فارس أحلامي الذي كنت أحلم به أخيرًا وجدته ولن أدعه يفلت من يدي.
نمتُ تلك الليلة سعيدة بعد أن كنت أشعر دومًا أنَّ شيئًا ينقصني، هي روحي ظلت تبحث عن توأمها حتى عثرت عليه. جاك أتى ليدخل البهجة في قلبي ويملأه سعادة بعد فقداني لأبي وغياب أخي، أخذت صورة أبي بين يدي وأخبرته بحكايتي، من المؤكد أنه سيكون سعيدًا لسعادة ابنته، قبلت الصورة ووضعتها برفق بجانب سريري لأنام وابتسامة مرسومة على محياي.