استيقظتُ صباحًا على وقع زخات المطر وهي ترطم نافذة الشرفة، أوقظ مطر تشرين في قلبي الحنين ليشتعل شوقًا وتشرق روحي من جديد في زحمة الانطفاء، عاد حبيبي جاك وهو الآن معي في لندن، من المؤكد أنني سألتقيه وأعاتبه عن كل دقيقة عانيت فيها.
قصدت عملي كالمعتاد ونفسي مرتاحة، فصورة جاك في مخيلتي وفؤادي تنير لي الدجى، كم أتوق لرؤياه! ما همَّني ما فعله في حقي؛ فقد سامحته من قلبي ما دام قد رجع تائبًا، انتصر أخيرًا حبنا الطاهر ليرفرف في الفضاء وينقذ روحي التائهة من ورطة التردي.
وصلت إلى مكتبي لأبدأ عملي، روتين يومي يتكرر، يظل أشبه بنمط عملٍّ حصري ومفروض ليولد داخلنا في نهاية المطاف شعورًا بالاختناق؛ لذا أنا أكره الروتين وأحاول دومًا ان أخلق لنفسي شيئًا مغايرًا لأُخرجها من دائرتها المغلقة، أزحت الستار عن شرفتي وكم كانت صدمتي حين رأيتُ جاك جالسًا في المقهى وعيناه مركزة في اتجاهي، تجمدّت في مكاني فلم أعد أقوى على الحركة، لقد عاد حبيبي وما عاد يتحمل الانتظار والشوق وهو ينهش فؤاده.
فتحتُ نافذتي ولوحت بيدي مبتسمة له، انفرجت أساريره وهو يصرخ بأعلى صوته أنه يحبني ولن يستطيع العيش من دوني، كل من كان في المقهى التفت إليه ليصفقوا بحرارة على مشهد حبٍّ رائعٍ وصادقٍ قلما وُجِدَ في زمنٍ كهذا. أخبرني أنه سينتظرني حتى أنتهي من عملي لنخرج سويًّا ونحيي أنفسنا من جديد.
كنت أعمل وتفكيري كله في لقائي بجاك وكأنني أول مرة سأخرج معه، لم تمت لهفتي عليه يومًا، فرسائل الشوق كانت تبعث إليه دومًا تحملها نسائم صباحي رغم البعد والهجر. مرَّ الوقتُ ببطءٍ إلى أن حضرت ليفيا صديقة دربي، أخبرتها وأنا سأطير من الفرح بالأحداث السارة وبعودة جاك، فرحت لفرحي وقبَّلتني، وفي نفس الوقت تأسفت لجون وما قد يحدث له إن علم بكل ذلك.
حبيبتي سنو وايت، أنا فرحة لأجلك، كنت أعلم أن جاك سيعود لك، لكن المسكين جون سيصدم وألفريدو لا أعرف كيف ستكون ردة فعله؟
ليفيا هذه حياتي، أنا من سأعيشها ولي الحرية أن أختار شريكي، لا أعتقد أن الحياة ستكون متزنة ما دام ينقصها الحب، كيف لي أن أسعد جون وأنا لا أحبه؟
صدقتِ سنو وايت، الحبُّ هو من يجعل الحياة لها معنى ويشعر الانسان بوجوده، لا عليك.. الأيام ستصلح كل شيء لتعيشي الآن لحظاتك.
خرجت من العمل رفقة ليفيا وكل ما بداخلي ينادي لجاك، وجدته ينتظرني في نفس المكان، لقد أعاد الماضي لحظاته الجميلة ولم يخذلني إحساسي، ودعتنا ليفيا متمنية لنا أسعد الأوقات، أخيرًا التقينا بعد عناءٍ وفي عيوننا لهفة واشتهاء، لم يكن سيحدث ذلك لولا الصدق والوفاء اللذان كانا يملآن حبَّنا، هي عاصفة هوجاء أخطأت طريقها حين أرادت تلويث حبنا.
جلستُ بجانبه وهو يقود السيارة، كنت أنظر إليه وهو كذلك وأنغام الموسيقى الهادئة تملأ مسامعنا، لقد أحيت روحي. لن أسأله عن كل ما مضى ولن ألومه وهو الآن بين يدي، حضوره أنساني وجع ونحيب ليالٍ سهرتها، نعم.. هو معي سيطفأ جمرة شوقي بعد أن اقتلعني من نغمة ناي حزين.
دلفنا إلى أحد المطاعم المتواجدة في ضواحي المدينة، أخذنا مكانًا منعزلًا يطلُّ على البحر، أنا وجاك متلهفان لقضاء أوقات جميلة بعيدًا عن صخب الناس وضوضاء الحياة، وكلنا رغبة في أن نختلي بعالمنا لنغوص في خبايا بعضنا فتمتزج أفئدتنا ومشاعرنا تحت قداسة حبنا.
سألني كيف قضيت أيامي من دونه؟ أجبته أنني كنت ميتة أعيش دون هدفٍ، أخبرني هو أيضًا لم يسلم من الفراق فحياته كانت جحيمًا وما عاد يتحمل ذلك، قرَّب كرسيه بجانبي ليأخذني في حضنه، نمت على صدره وأنا أشعر بالحنان والأمان، بقيت لحظات بين ذراعيه وهو يمسح دموعي، لم تكن دموع الحزن فقط على فراقه بل هي عبرات سنين متراكمة ظلت بين ثنايا صدري مختبئة، كلها تمثل فقد لمشاعر جميلة احتجتها في كل مرحلة من مراحل حياتي.
قضينا وقتًا ممتعًا ولحظات صفاء استطعنا أن نستعيد بعضنا إلى أن اقترب طلوع الشمس، خفت أن تقلق علي أمي فطلبت منه العودة إلى البيت، لا أعرف كيف ستكون ردة فعل أخي وجون، أكيد سيلاحظان غيابي ويسألان أين قضيت كل ذلك الوقت؟ لا يهمني ما دمت قد استمتعت بوقتي مع توأم روحي الذي غاب عني أيام خلتها سنينًا كاملة.