لا أعرف ما الذي يحدث لي هذه الليلة، لا أستطيع النوم، كل شيء يحضر أمامي، الماضي يطاردني إلى سريري ليذكرني بطفولتي ويعود بي إلى الوراء.
أحاول أن أبعد عني التفكير في ما حدث لي البارحة؛ حلمي بأبي، والآن النوم يخاصمني.
أعتقد ربما هو الحنين لأبي قد انتابني، فما أصعب الفقد، كأن تفقد جزءًا منك، ذلك الإنسان الذي تتمنى لو يبقى بجانبك خطوة خطوة، وبالأخص الأب فهو ذلك السند الذي لن يعوضه أحد.
فأنا لا أستطيع نسيان دموع أمي حين كنت أجدها صدفة تبكي عليه في غرفتها، تركها تصارع الحياة من أجلي أنا وأخي الذي يكبرني بسنة يدعى (ألفريدو)، هذا الأخير سافر إلى أمريكا بحثًا عن حياة أفضل، لأبقى أنا وأمي مع خادمتنا صوفي، أبي كان ميسور الحال؛ حيث ترك لنا من المال ما يكفينا، ومنزلا ذا طابقين يضم حديقة متواضعة، لكن وفاته خلفت من الحزن والغم ما يكفي لتسكن بين ثنايا صدورنا، كذب من قال أنَّ النقود هي كل شيء، فقد كنت بحاجة إلى حضنه وأنا صغيرة، والآن.. ربما أكثر.
لكن هذه هي الحياة، لا يمكن أن نأخذ منها كل شيء، فإن أعطتك المال فقد تسلبك أشياءً أخرى أجمل كالأمان والحب، ومن كنت لا تعتقد أنك ستحرم منه يومًا.
لم أعش مع أبي كثيرًا، كان عمري أربع سنوات حين توفي، وكلما حاولت تخيله انتهى بي المطاف إلى تذكر طيفه وهو يجلس على تلك الأريكة التي أصبحت أعشق الجلوس عليها كلما اختليت بنفسي، ترك قيثارته فاحتفظت بها لنفسي وتعلمت العزف عليها كما أحببتها لحبه إياها.
كلما حنت أمي للحنه نادتني لأعزفه لها، كم كان رائعًا وحنونًا كما تقول لي! كنت وردتَه التي يحملها كلما أتى من عمله مساءً ليرتشف من رحيقها بتقبيلها دون توقف، سرقته المنية مني دون أن تترك لي المجال للتمتع برؤيته ولا حتى الشبع من كلمة بابا.
كبرت وكبر معي الخوف من الفقد، أخاف أن أفقد أمي هي الأخرى ومشاعر لا يمكن استعادتها، هي من تبقت لي؛ فسبق وفقدت أخي الذي فضَّل البحث عن السعادة في مكان آخر، نسي أننا قد يمكن خلقها بيننا بتواجدنا مع بعض، لكنه لم يرها مع الأسف.
سألت أمي ذات مرة عن سبب وفاة أبي، أجابتني ودمعة حارة تنزل من مقلتيها بأنه هو ذاك المرض الخبيث الذي أخذه منا فجأة.
بقيت على هذه الحال ساعات طويلة أستعرض فيها ماضيَّ إلى أن سمعت زخات مطر وهي تتساقط بغزارة، قفزت من سريري في اتجاه الشرفة لأمتع نظري بها وعيناي على الأفق تعانق روح أبي.
عدت إلى سريري محاولة النوم، وكلي أمل أن يكون فارس أحلامي شبيهًا بأبي؛ يعشق الموسيقى، هادئ الطباع، يحب الخير للجميع.
أهلَّ الصباح من شرفتي ورنات هاتفي كالعادة أيقظتني، هبطتُ السلالم بسرعة في اتجاه المطبخ ورائحة البيض المقلي تغمر المكان، هي صوفي أعدت لنا الفطور، أكلت بسرعة، فأنا على موعد مع صديقتي، اليوم عطلة سنمر أكيد على كل المتاجر، ونتبضع منه ما راق لنا.
حضرت ماما لتتناول معنا، لم أنتبه لها إلا عندما سمعتها تقول لي:
– سنو وايت أتمنى أن لا تتأخري.. أعرفك.
– ماما إلى متى ستظلين تخافين علي؟ لقد كبرت.
– أنت لم تكبري، بالنسبة لي ما زلت تلك الطفلة الصغيرة وستبقبن كذلك وإن تزوجتِ وأصبحت لك أسرة.
– لا تقلقي، سأعود مبكرًا لنجلس معًا، فأنا لا أشبع منك، فأنت من تبقّى لي.
أكملت فطوري لأصعد إلى غرفتي وأختار ما سأرتديه في هذا اليوم الذي لا أعرف ما الذي يخبئه لي.
الغريب؛ فتحت دولابي ووقفت أنظر إلى الفساتين، لقد ارتديتها كلها تقريبًا، فكرت في أن أتخلص من بعضها وأشتري بدلًا منها. الآن سأرتدي سروالًا جينز وقميصًا يناسبه، وضعت لمسات خفيفة على وجهي.
لا أحب المكياج الفاقع الثقيل؛ فذلك قد يجعلني أبدو أكبر من سني، وأنا أحب أن أظلَّ طفلة وإن كبرت.
رششت رشتين من عطري المفضل المستخلص من رحيق الياسمين، ثم أخذت حقيبة يدي ومعطفي وألقيت نظرة على صورة أبي واعدة إياه أن لا أتأخر، أعرف أن روحه معي تراني وتحس بي وملازمة إياي في كل أوقاتي.
نزلت إلى الأسفل وودعت أمي وصوفي بعد أن أشبعتهما قبلات متمنية لهما يومًا جميلًا، لم تمض إلا دقائق على سيري حتى سمعت نداء صديقتي ليفيا، هذه الأخيرة لا تفارقني كبرنا ودرسنا معًا، هي وحيدة والديها، ما زال على قيد الحياة يجمعهم بيت متواضع، لكنه متماسك بالحب والدفء الأسري.
(ليفيا) فتاة طويلة القامة، جميلة، لها عينان زرقاوان، وشعر أشقر، تتميز بأخلاق حميدة، أعتبرها أختًا لي. عشنا معًا على القرح والفرح، هي بمثابة خزينة أسراري كما أنا بالنسبة لها.
– سنو وايت رائع أختي التقينا في نفس الموعد، كيف حالك؟
– بخير حبيبتي وأنت كيف حالك ووالديك؟
– الكل بخير يبلغان تحياتهما إليك.
– هيا بنا نستغل الجو الجميل، فنحن على أبواب الشتاء، وأنت تعرفين كيف يصبح الجو هنا يتغير بين لحظة وأخرى.
– صدقت عزيزتي لنستمتع بلحظاتنا الآن قبل أن يفاجئنا الجو.
بدأنا ندخل من متجر إلى آخر، نختار من بين الملابس المعروضة؛ خصوصًا آخر الفساتين تمنيت لو اقتنيتها كلها لروعتها واستيلائها على العقل.
راق لي فستان جميل أسود اللون مورد، ليفيا كذلك شجعتني على شراءه؛ وخصوصًا أنه سيلائم لون بشرتي، أما صديقتي فقد اشترت قميصًا؛ فهي تحب ارتداء السراويل مع القمصان.
بعد أن أخذ التعب منا لكثرة المشي، انتهى بنا المطاف إلى أحد المطاعم، طلبتُ لي ولصديقتي أكلتنا المفضلة (بيتزا بالخضر واللحم المفروم).
وبينما نحن نتناول طعامنا، لفت نظري شاب وسيم طويل القامة، ملامحه حادة، شعره بني، أنيق في هندامه، له سحر خاص، ينبعث من عينيه بريق جدبني إليه لم أستطع إكمال طعامي؛ فنظراته كانت تلاحقني. حتى علت وجنتاي حمرة أشعرتني بحرارة لم أستحملها، أخذت كوبَ ماء بارد تناولته كاملًا دون أن أشعر؛ لأطفأ اللهيب الذي اعتراني، لاحظت ليفيا توتري وسألتني باستغراب:
– ماريا ما بك؟ تغيَّر لونك هل أنت بخير؟
– لا شيء، فقط شعرت بحرارة هنا داخل المطعم.
– أتمزحين؟ أظن الشتاء على الأبواب وليست هناك حرارة حتى يحدث معك ذلك.
– ليفيا هيا بنا أريد العودة إلى البيت أمي ستقلق علي كثيرًا إذا تأخرنا.
– غريب أمرك اليوم، المهم لا مشكلة لنعود، ولكن حتمًا ستخبرينني عن أمرك إن لم يكن اليوم فغدًا.
خرجت من المطعم رفقة ليفيا، وطلبت منها أن تسرع الخطى وكأنني أهرب من قدر لا أريده أن يلاحقني. ربما هو زلزال الحب المباغت طرق بابي وأنا أخاف منه؛ لذا لدت بالفرار. التفت ورائي فإذا بي أجده يترصد خطواتنا ويتبعنا أينما اتجهنا، زدت من سرعتي حتى لا يلحق بنا، ولم أشعر بنفسي إلا وأنا أمام باب بيتنا أدق الجرس برنات متتالية، وفي نفس اللحظة أودع ليفيا بسرعة؛ مما جعل صوفي تفتح لي وهي متفاجئة من عودتي المبكرة.
دخلت بسرعة وصعدت السلالم دون أن ألقي التحية على أحد في اتجاه شرفتي، فتحتها فوجدته في الشارع المقابل لبيتنا. كم صعقت حينها! لقد رآني وأشار إلي بيده راسمًا على وجهه ابتسامة أفقدتني صوابي، كيف تعرف على البيت وعلم أين أسكن؟ لكن لماذا تبعني وأراد أن يعرف مكاني؟ ربما هو أيضا شعر بزلزال الحب.
ما استغربت منه كونه غريبًا لم يسبق لي أن شاهدته في ذاك المطعم، فأنا أزوره من حين لآخر مع ليفيا، ربما هو جديد ليس من هنا؛ هيأته وشكله تؤكدان ذلك. أغلقت باب الشرفة وألقيت بنفسي على السرير أستعرض أحداث هذا اليوم، وكلما تخيلت صورة ذاك الغريب ابتسمت، لم أفتح عيناي إلا على صوت صوفي تناديني.
– سنو وايت أين أنت؟ لقد أعددت الشاي حبيبتي.
– نعم، في الحال سأكون معكما.
غيرتُ ملابسي وألقيت نظرة على الشرفة، لقد رحل عصفوري ربما قد يعود أو لا يعود.
نزلت السلالم بخطًى بطيئةً حتى إن أمي وصوفي استغربتا من ذلك، فقد تعودتا على الفوضى التي أحدثها عند نزولي، جلست على مقعدي وأنا شاردة الذهن؛ لقد أخذ قلبي معه!