هذا المساء هطلت فيه الأمطار بغزارة، جلست على أريكتي المعتادة بالقرب من أمي، أنظر من خلفي لأتأمل قطرات المطر من النافذة دون ملل، فهي تستهويني وتريح أعصابي، تذكرني بطفولتي البريئة حين كنت ألعب تحت زخاتها، ما همني أحد ولا شغلني حب.
وبينما أنا شاردة الفكر إذا بأخي وجون قد انضما إلينا بعد أن دخلا وهما مبللان، قامت حينها صوفي بإشعال المدفأة؛ لأن الطقس كان باردًا، وبينما هي تحرك الحطب راق لي مشهد نيرانها وهي تتراقص وكأنها لوحة فنية، كما سرحت في جاك تمنيته لو كان بقربي لكنا سعدنا بلحظاتنا، ليفيا كانت قد وعدتني أن تحضر لقضاء نهاية الأسبوع معنا حتى تستمتع هي الأخرى وتكسر روتينها اليومي لكنها تأخرت.
لا أعرف لماذا لم تأتِ بعد؟ ربما والدها مريضٌ، ظلَّ بالي منشغلًا بها إلى أن سمعت طرقات على الباب فتحت لها صوفي، ألقت التحية وأخذت مكانها بجانب ألفريدو الذي بدوره فرح بقدومها، أعرفه هو يحبها لكنه كعادته كتوم وكبريائه يغلب عليه، لم أشعر إلا وجون اقترب ليجلس بجانبي، بدأ يحدثني عن نفسه وحياته، لم أعترض.. كنت أسمعه وفكري قد سلبه جاك أفكر في وروده التي أرسلها إلي.
لم أنجذب إلى جون رغم أنه شخص وسيم هادئ الطباع، لكن قلبي مع جاك فقد سحرني ببريق عينيه لن أنساهما ما حييت، وأنا متأكدة أنه يبادلني نفس الإحساس، كل الأماكن التي ارتدناها مع بعض تشهد على ذلك حتى حبات الرمال التي مشينا فوقها بجانب البحر تحتفظ بذكرياتنا، ظللت على هذا الحال لم أغفو من شرودي حتى قدم لي جون كأسًا من النبيذ قائلًا لي:
أعتقد أن جميلتي سنو وايت بالها ليس معي وأنا أثرثر كالأبلة.
معذرة فقط هو إرهاق العمل طوال الأسبوع ونفس الاشياء تتكرر معي.
معك حق فالإنسان يلزمه التغيير، عليك بالسفر حتى يتجدد نشاطك عزيزتي.
سأفكر في الأمر عندما أحصل على عطلة لأرفه عن نفسي.
أرجو أن تأتي إلى أمريكا على الرحب والسعة ستكونين معززة مكرمة في ضيافتي.
أشكرك كثيرًا، فعلًا أنت شخص مميز وخلوق، لكن لم يخطر ببالي يومًا الذهاب إلى أمريكا، فغالبًا ما أختار ضواحي لندن.
العفو، المهم فكري في الأمر ولن تندمي، فأخوك سيكون بجانبك ليس هناك مما تخشينه عزيزتي.
بقيت صامتة دون أن أجيبه وإن كنت في قرارة نفسي أريد فعلًا الذهاب؛ لعلي أعثر على جاك وأنظر في عينيه جيدًا لأبكي على صدره مؤنبة إياه لتخليه عني، بل وعن حب لن يتكرر.
طلبت مني أمي أن أعزف لها كالعادة حين يكونوا مجتمعين، أحضرت قيثارة أبي وبدأت أعزف والكل صامتٌ مستمتعٌ ومتأثرٌ في نفس الوقت، لم أتمالك نفسي فذرفت دموعًا غصبًا عني لقد أيقظت أحاسيسًا ستظل قابعة كجمرة تنهش في فؤادي وأنا أتخيل أبي ليته كان معنا، كلما كبرت إلا وشعرت بالفقد أكثر.
استأذنتهم حتى أصعد إلى غرفتي، أحب الاختلاء بنفسي حين أكون على هذه الحالة، نظرت من الشرفة أتذكر جاك عندما كان يراقب تحركاتي كم كنت متلهفة إليه وما زلت، فقد وجدت فيه بعضًا من أبي، لن أكذب على نفسي فغيابه أثَّر في قلبي وأوجعه حتى بات يجر خجلي روحي، وهو يعصر شبق النهش في أغوار الفقد تحت خيبات الأمل مختزلًا حلمي الذي عشت من أجله.
استلقيتُ على سريري رغبة في النوم، كم تمنيت أن لا أستقيظ بل أظل نائمة كالأموات على الأقل هم لا يفكرون، فجأة رنَّ هاتفي ذعرت ولم أتمالك نفسي وأنا أرد على المتصل دون معرفة من.
من جاك؟ عفوًا من المتصل؟
أعدتها مرارًا دون أن أسمع الرد وبعدها أقفل هاتفه، لكن قلبي كان يحدثني أنه جاك.
لماذا لم يجب؟ من المؤكد أنه متردد، فما فعله معي لم يكن هينًا ولن أسامحه بسهولة، فكما أرق مضجعي وجعلني أتألم سأعيد له الصاع صاعين، وبينما أنا أستعد للنوم دخلت ليفيا إلى غرفتي وهي مستغربة لخلودي إلى النوم مبكرة سألتني:
كيف تتركيننا سنو وايت؟ هل ستظلين تعانين؟ عيشي حياتك فأمامك جون يتمنى لو تصادقيه.
ولكن كيف لي أن أتصنع الحب مع جون وقلبي لم يعد ملكًا لي ليفيا؟
أرى أن تختاري من يهتم بك ويقدرك لا من خذلك وتركك حبيبتي.
ربما أنت على حق، ولكن هذه أنا لن أتغير فمحال أن أنافق أحدًا وأجامله وأعيش حياة زائفة.
ستتعبين سنو وايت، فالزمن تغيَّر وما عادت الحياة كما تتخيلينها في عالمك حاولي أن تعيشي الواقع.
الكل يريدني أن أعيش كما يريدون لا كما ترغب نفسي، لا يهم إن اغتربت عن ذاتي. استأذنتني ليفيا طابعة قبلة على جبيني ومتمنية لي ليلة سعيدة، وقبل أن أطفأ النور التفت إلى أبي لأجده بدوره يبدو عليه الحزن، فقد تأسف على زمن ما عاد له مكان للمثالية فيه.
نمت وكلي أملٌ أن تستقبلني أيامي بما ترغبه نفسي لا بما يخططونه لي.