كان يمشي بخطوات ثابتة وببطء على الرمال لثقل ما يحمله فوق رأسه، لقد كانت صينية مملوءة عن آخرها، بحلوى لذيذة معروفة (ببنين) ساخنة تغري كل من خرج من البحر أن يشتريها منه لشدة الجوع الذي يعتريه حينها، دون أن ينسى ابتياع مشروب من عنده، فبيده الأخرى أيضا كان البائع يحمل ثلاجة صغيرة ضمت مشروبات باردة.
هذا هو أحمد ذو الخمسين سنة وذاك هو عمله الموسمي الذي
يزاوله في فترة الصيف، فيه يعج المصطافون القادمون من مدن أخرى إلى الشاطىء، حيث تنتعش الحركة ويحصل أثناءها أحمد على نقوذ تكون كافية في تلك الشهور القليلة، ليعيل أسرته الصغيرة التي ضمت زوجته وثلاثة أولاد في بيت متواضع قديم ورثه من أبيه، لكن ما إن ينتهي موسم الصيف يكون عليه لزاما ليبحث عن عمل آخر، لقد اعتاد على أن تمشيه قسوة الظروف لا أن يسيرها ، أكيد كان سيعاني أكثر لولا وجود البيت الذي خفف عنه حمل الحياة، حمد ربه على ذلك السقف الذي يأوي إليه كل مساء وهو منهك بسبب المشي لساعات طويلة على شاطىء البحر ذهابا وإيابا والعرق يتصبب من جبينه، تحت أشعة شمس محرقة ، والتي ما اكتفت منه إلى أن أصبحت بشرته قريبة الى السواد من فرط اسمرارها، حتى أن القبعة التي يرتديها كُشف لونها الحقيقي. كل مساء يعود إلى مسكنه يجد زوجته تعمل على إعداد الحلوى من أجل بيعها غدا، ترحب به كعادتها قائلة:
– كيف كان يومك عزيزي، أتمنى أن تكون قد وُفِّقت؟
يرد عليها والتعب باديا على وجهه:
– أحمد الله على ذلك، لكن لن أخفي عنك الأمر، ترهقني أشعة الشمس، فحرارتها لن يتحملها أحد.
تجيبه برأفة:
– ما غدت لقمة العيش سهلة المنال عزيزي في زمننا هذا، هناك شيء خطأ يحدث في العالم.
وكالمعتاد يعقب عليها مفسرا قولها:
– اكيد الخطأ في الإنسان الذي تغلب عليه حب الذات حتى ما عاد يفكر سوى في نفسه دون غيره.
ولتزرع الأمل في قلبه اليائس وينام مطمئنا ترد عليه بقولها:
– لا عليك لن يدوم الحال على ما عليه، فالحياة دول والزمن ما استقر عل حاله يوما، يدور كالرحى ليلف بنا في نفس الحلقة، وهو في سفره ونحن معه يأخذ منا ومن جهدنا والأحداث فيه تتغير عند كل محطة. لنقف وإياه عند نقطة النهاية.
يجبيها مستغربا :
– لقد أصبحت فيلسوفة ما عهدت منك كل ذلك؟
ترد عليه ضاحكة:
– هي مرارة الظروف ولقمة العيش من علمتني عزيزي، أحيا على أمل ان يكون غدنا أفضل.
ذاك هو حديثهما اللذان اعتادا أن يدور بينهما. إلى أن ترسخت كلماتها في يوم بذاكرته وهي تردد ” غدا سيكون أفضل”
خلد للنوم وصورة الغد بين عينيه وقد شعر ببعض الأمل أنه سيكون ربما أفضل. رأى نفسه في الحلم على الشاطىء يجلس وزوجته برفقته. والأولاد مستمتعين بأشعة الشمس تحت المظلة، يأخذ منها ما يكفيه برغبة وإقبال على الحياة، وكأنه يرى البحر لأول مرة بكل ما يحويه من جمال وسحر، والأمواج بين مد وجزر تحتضن هموم الكل بتساوي، ذاك هو شعارها ما فرقت بين البشر منذ الأزل، وبينما هو غائب عن الوجود في عالمه الجميل شعر بعطش شديد طلب من زوجته شيئا باردا يروي به ظمأه، ناولته زوجته كوب عصير، أخذته من الثلاجة كانت بجانبهما، وما إن هم بشربه حتى سمع نداءا من المطبخ لقد كانت زوجته تقول:
– عزيزي ما خطبك كيف لك أن تنسى وضع المشروبات في الثلاجة؟ انهض لقد تأخرت عن عملك.
اجابها مذعورا:
– حالا سأقوم من الفراش لقد نسيت، هلا قمت بذلك؟
فرك عينيه المغمضتين وابتسامة ساخرة على وجهه، وكأنه يعاتب الزمن الذي حرمه من متعة إكمال الحلم، كيف له أن لا يتركه يستلذ طعم مشروبه الذي تمنى أن ينعشه يوما تحت شمش محرقة وهو ينادي بصوت مبحوح:
-مشروبات باردة للبيع هلموا إليها لدي مختلف الأصناف.
هذا واقعه الحقيقي الذي لامفر منه، رسمه له القدر بريشته قبل أن يأتي وتزرع فيه النفس، حمل صينيته والثلاجة وصفق الباب وراءه تاركا حلمه معلقا على أمل أن يستيقظ من نومه فيغدو حقيقة.
سميا دكالي