ما كان الجمال مقتصرا على رؤية الأشياء فقط دون الإحساس بها وإن غابت عن الرؤيا، فمن لا يحمل نفسا طيبة لن يستشعر بوجودها ولا معانيها، وإن أطال التأمل فيها، حينها لن يعرف منها سوى مسمياتها، فالأولى أن يسبقك إحساسك إليها قبل أحرفها.
فالشمس قد لا تراها وهي تشرق على الكون لتضيء وجه الحياة بأنوارها، فتمحي عتمتها لتوحي لك بالكم من الأعمال المعلقة، لكنك قد أحسست بوجودها حين جددت فيك روحك بعد سفرها ساعات عنك.
فكم من وردة ما رأيتها، لكن عطرها قد سبقها ليملأ روحك طيبا، فلا تلبث أن تقتفي أثر عبقها وكلك لهفة لتحتويها حتى تستدل إليها، والبحر تشعر به وقد استنشقت رائحة مياهه المالحة وأنت ما وطئت قدميك بعد إليه لتنتعش روحك العطشى، هي مسألة إحساس بالوجود قبل التحسس على أشيائه، فكلما تأملت الكون إلا ووجدت كل ما فيه يوحي لك بإشارة منه لتفقهه قبل أن تصل إليه.
كذا النفس الطيبة تضيء على من حولها بجمال روحها، لتبعث بفضائلها وتعكس بنفسها على كل من حولها بكل حب وعطاء، تسمو وترقى بهم بغية إظهار الشيء الجميل فيهم، وقد ترحل عنهم لكن روحها ما رحلت لتظل كسراج تنير الأنفس كلما تذكروها.
فالكون ما وُجد عبثا بل لنتأمله ونُمتع النفس فيه بعد أن جالت الروح في فضاءه، وما الطبيعة خلقت دون غاية بل للتحدث معها بطريقتها حتى تملأ نفسك بها فهي منك وإليك، لأنها تظل ذاك الإحساس المشترك الذي لا يُرى.
ولنا في أجمل قولة قالها سيد الخلائق محمد عليه أفضل الصلاة والسلام صاحب أجمل وأطيب روح بُعثت إلينا ” ولو أن تعض بأصل شجرة ” فالشجرة هي من خلق الله، وما قصده بذلك سوى أن لانهمل التأمل في كل ما وهبه الله لنا، ونظل مرتبطين بذاك الحبل المتين بين أرواحنا وتلك القوة أو الإحساس الذي يشدنا إلى الأفق.
حينها لن يغلب التطبع على طبيعتنا التي جبلنا علينا مهما اصطدمنا بأحدث ما قد تصل إليه البشرية من جديد ما دمنا محصنين أنفسنا بكل ما يحيي أرواحنا.
فالعبادة ليس أعمال وشرائع تُزاول ونفس فارغة بل هي أجَلّ من ذلك أن تعبد الله في كل شيء وهبه إياك، ولا أجمل من أن تشكره على نعمة الجمال التي قد تكون قريبة منك وأنت ما كنت تدري بها.
حينها ستتوصل إلى ماهية الشيء والغاية منها، فبدل أن تكون مقيدا فقط بلحظتك فسوف تعيشها في كل اللحظات وإن غابت عن ناظريك، وسترى الجمال في كل شيء وإن لم يبدو لك مجسدا، وهذا طبعا سوف يشعرك بالوجود.
سميا دكالي