وقفت منال في شرفتها رامية بنظرها إلى السماء لتتراءى لها أدخنة متصاعدة من مدافىء البيوت المتفرقة وسط الثلوج المتراكمة على أسقفها، ربما الدفىء قد ملأها ليبعث فيها الأمان والحياة من جديد، إلا غرفتها فما أحست بالدفىء بداخلها رغم احتوائها على المدفأة، فجسدها يرتعش بردا لتتبلد مشاعرها معها.
انسلت من مقليتها دمعة حارة بعد أن سافرت بها ذاكراتها إلى ماض ليس ببعيد حيث كانت تعيش مع والديها وأختها الصغرى في بيت تغمره السعادة والحب، كيف لها أن تتسرع وتلقي بنفسها بين يدي غريب ؟ لتربط نفسها به دون أن تقرأه جيدا، الآن تؤدي ثمن كل ذلك فما قدر تضحياتها ولا حسب للمشاعر حسابا حين تركها وحيدة تعيش حسرة وخذلانا وفراغا، قطفها وردة طرية ليرميها ذابلة بعد أن فقدت نظارتها.
دخلت إلى غرفتها بعد أن قضت لحظات مع نفسها لتجد الصمت قد سكن الجدران وخيم على كل ركن من أركانها وكأنه شبح يترصدها. تسللت بعدها تحت غطاء سريرها هربا من وجودها، محاولة البحث عن النوم لعله يرحم ضعفها ويبعدها عن عالم الزيف، فتعيش ولو ساعات في اللاشعور لترتاح من ذاتها.
استيقظت صباحا وألقت بغطائها بعيدا، أملها أن يحمل معه أوجاعها عنها فيخلصها منها. نظرت لتلك البيوت الدافئة لترى أصحابها وهم يتهافتون سعيا للرزق كل واحد في اتجاه معاكس غير طريق الآخر. أعدت لنفسها فنجان قهوتها وتناولت فطورها غصبا. فما عادت عندها شهية للأكل ولا لأي رغبة.
حملت حقيبتها ومعطفها لتندس بداخله وقد أخفت حزن عينيها بنظارة سوداء، صفعت الباب وراءهت لتترك بداخلها غربتها الموحشة وحقيقتها. ستبدو للكل شخصا آخر غير الذي كانت عليه بعد أن ارتدت قناعا، وهي سائرة إلى مكان عملها بدا لها كل شيء تكسوه الثلوج حتى أزهار الحديقة أثقلت بها فانحنت طوعا لقسوة الطبيعة عليها لتحزن معها. لقد شبهتها بعد أن أسقطتها التجربة القاسية أرضا..
في العمل حيت زملاءها بسرعة دون أن تلقي عليهم نظرة، علقت معطفها على المشجب ثم أخذت مكانها في المكتب لتغرس نفسها فيه. لقد أدركت أنها تغيرت بعد أن خاضت تلك التجرية المريرة لتحولها أكثر هدوءا وتأملا وكلها خوف من المجهول. خوف من القادم كيف لها أن تكسره الآن؟
تخاف من قادم لا تعرف كيف سيحضنها؟ لكنها متيقنة أنها لن تتألم مرة أخرى، فكيف لقلب ميت سيحيا مرة أخرى، لقد انكسر ومحال أن ترممه الأيام ولو ارتبطت مرات عدة، ربما ستخوض تجربة ثانية لكن ستكون مختلفة لأنها لن تقودها عاطفتها بل عقلها، لم يعد لها شيء الآن تطمح إليه سوى الأمان لتحيا سعادة مزيفة خلف نظارة سوداء.
سميا دكالي