لم يكن الإرث يومًا هو ما تُرك لك من أراضي وأموال، بل هي ما غُرس فيك من مبادئ سامية وأخلاق نبيلة ترعرعت معها، حتى بت كثمرة طيبة لا تعطي إلا الطيب ولا يفوح منها إلا الرائحة الزكية لتدخل الفرحة والبسمة إلى كل من حولك.
فأبي ما ترك لنا سوى بيتٍ متواضعٍ نعيش فيه، لم يمت يومًا بالنسبة إلي ما زال حيًّا، فما غاب عني سوى جسده، أما روحه ومبادئه فأنا أستشعرها دومًا معي لكثرة ما لقَّنتني أمي إياها وحكاياتها المستمرة عنه كلما تحدثنا عنه، حتى تشرَّبتَها ونمَت معي.
أنهيتُ عملي بعد يوم شاقٍ وتلقي خبر صادم من زوجة جاك، أعلم أن جاك ينتظرني ومتشوق لمقابلتي وأنا مثله فقد بتنا كروح واحدة، نشعر في نفس اللحظة ببعضنا إذا ما اعترانا إحساس أو مر علينا حدث، فكيف للظروف هان عليها الأمر لتفرقنا؟ كم هي قاسية؛ فأنا لن ألوم حبيبي على ما مضى؛ لأنه لم يكن يدري أنه سيلتقي بي ويحبني ولن أحاسبه حين أخفى عني أمر زواجه، فقد خاف أن يفقدني. من المؤكد أننا ضحية الظروف وهي من سيرتنا وأخذتنا إلى حيث شاءت وتشاء.
ألقيت نظرة على الشرفة، وجدت حبيبي جاك جالسًا في المقهى ينتظرني المسكين، أخذت مرآتي لأرتب شكلي وأخفي ملامح الحزن حتى أستقبله بابتسامة على الأقل، كم أن الحياة تظلمنا، أشعر بحزن عميق وألم يعتصر قلبي، جزء مني سأفقده بعد أبي وكأني أموت تدريجيًا، مخطئ من يعتقد أننا نموت مرة واحدة حين نفارق الحياة بأجسادنا، بل نموت كلما فقدنا عزيزًا على قلبنا ونحن أحياء.
ذهبت إلى حيث كان جاك جالسًا، وقف مبتسمًا حين رآني وكأنه طفل فرح بلعبته وهي تقدم له، أخذني في حضنه وأنا أيضًا بقيت بداخله أشرب من حنانه ما شاء لي، أحيي به نفسي الكئيبة وروحي المتعطشة. ترجَّلنا وأيدينا متشابكة وكأننا نخشى فقدان بعضنا البعض، ركبنا السيارة وبينما نحن في الطريق طلبت منه الذهاب إلى شاطئ البحر وإن كان الجو ليس ملائمًا، المهم أن نلقي نظرة عليه ونحيي ذكرى كانت لنا فيه.
وصلنا إلى الشاطئ، اخترنا مقهى بقربه، كان الوافدين فيه قلة من الناس لسوء الجو، جلسنا على طاولة مستديرة، كان البرد شديدًا، أخذني في حضنه الدافئ ليغدق علي بالدفء والحنان، غاب عنا الكلام فنحن نفهم بعضنا منذ زمن قبل أن نعثر علينا. وأنا أتأمل البحر بدا لي غاضبًا، فأمواجه عاتية وصوتها توحي بالخوف، من المؤكد أنه لا يسلم منها أحدًا إذا فكر في معاكستها ولو كان سباحًا ماهرًا، هكذا هي الحياة شبيهة بها.
كنت سأهم وأحكي له كل شيء، لكن فكرت أن أؤجل الأمر لوقت آخر، لا أريد أن أفسد لحظتنا، أعلم أنها لن تأتي مرة أخرى؛ لذا فلأغتنمها الآن، فقد اكتفى الحزن مني وما عاد يجد له مكانًا فارغًا ليستقر فيه، فكرت أن أساله لأختبر مدى حبه لي وإن كنت متأكدة أنه يعشقني، لكن رغبة في التأكد قلت:
حبيبي جاك لي طلب عندك هل تستطيع أن تلبيه لي؟
أكيد حبيبتي سنو وايت، أنا كلي لك أخبرني ما هو؟
هل يمكن لك أن تنقل كل أعمالك هنا في لندن وتستقر؟
سكت وهو يفكر في الأمر وقد حضنني بشدة وأجابني بنبرة كلها حنان وثقة:
نعم حبيبتي سنو وايت، سأفعل وسأضحي بكل شيء من أجل سعادتنا ولن أتركها تهرب منا ثانية.
أعلم أنه قادر على فعل ذلك، أنا الآن في حيرة كبيرة وتائهة لا أدري إلى أين ستصل بنا الأحداث؟ لا أود أن أحرم ابنة من حنان أبيها وهو ما زال حيًّا يرزق، من المؤكد أنها سوف تكبر وعقدة ترك أبيها لها ستنمو معها، المسكينة ستحتاج له في كل مرحلة من مراحل حياتها.
أما أنا فقد أتزوج غيره إن تخليت عنه لكن من دون حب، تبقى المشكلة الأكبر في ابنته. فلن تجد أبًّا آخر ولن يعوض فقده أحدٌ، كل ذلك كان يدور في رأسي الصغير ودموعي تسيل غصبًا، مسحها عني جاك بكل حنان وهو يسألني:
لماذا البكاء حبيبتي؟ كان عليك أن تكوني سعيدة فأنت معي ولن أتركك مرة أخرى.
لا شيء حبيبي، هي فرحة اللقاء، أبكي لأني بين أحضانك، فلم أصدق نفسي أنك عدت لي ثانية بعد الغياب.
رفع رأسي إليه وقبل شفتي ليروي ظمأه مني، انتشيت من قبلاته ما شاء لي آخذًا بي إلى عالمه، كم تمنيت أن نظل فيه ولا نستفيق منه، لكن يبقى ذلك مستحيلًا فكل أمر وله نهاية.
لم نشعر بالوقت وهو يمر سريعًا، أعادني جاك إلى البيت، كان يود لقاء أمي فقد اشتاق لرؤيتها لكن الوقت لا يسمح لذلك. كما أنه يخشى اصطدامه بجون وحدوث ما لا يُحمد عقباه، ودعته إلى أمل اللقاء وأنا أفكر في المتاهة التي وقعت فيها دون أن أجد لي مخرجًا، وأيضا في الأسئلة التي ستنهال عليَّ من أفراد عائلتي عن سبب تأخري.