كيف يطلبون مني أن أتركك كي أخلد إلى الراحة؟
كيف يطلبون مني أن لا أجلس إليك مجددا؟ يريدون مني أن لا أشقى ولا أُتعب عظام ظهري وأرجلي وانا منحنية عليك. لم يخطر ببال أحد من أبنائي وبناتي أنه لا سبيل إلى راحة فكري وقلبي إلا عندما يكون جسدي ملتحم بك. لقد أخذت عظام ظهري شكل الانحناء على آلة الخياطة منذ أن كنت أقضي ثلاثة أرباع يومي أحيك ملابس أطفالي و زبائني حتى ساعة متأخرة من الليل، فأغفو وراسي متكئ عليك. كنت كلما فكرت في مستقبل أبنائي وهم يفترشون بلاط الغرفة ويلتحفون أحلامهم البسيطة، أهرب من الأرق إليك فيزيد حماسي ويظهر إتقاني لعملي بل ويبرز إبداعي وابتكاري لتصاميم تجلب لي المزيد من الزبائن، حتى أصبحت قبلة العديد من التجار في مدينتي والمدن المجاورة. تمكنت من تأثيث بيتي فنام أطفالي على أسرة وثيرة وكبرت أحلامهم.
ازداد أرقي في بعض الليالي فضاعفت ساعات عملي ووصلت الليل بالنهار، لا أفارقك الا لقضاء حاجة ملحة. كيف لا ومصاريف أطفالي تجاوزت المأكل والمشرب والنوم؟
كيف أفارق آلتي ومازالت عندي طلبات زبائن، ونفقات مدارس وجامعات اطفالي. كيف أقيم ظهري بعيدا عنك؟ و لم يتوفر جهاز بناتي على أكمل وجه، ثم كيف لولدي الدكتور المستجد أن يفتح عيادة لاستقبال مرضاه؟ دون أن يكون له مبلغ من المال يخول له شراء أبسط المعدات الطبية، وكراء عيادة في الطابق العلوي لعمارة تكاد تكون آيلة للسقوط.
لم يطلب مني أحد أن أرتاح آنذاك، ولم يسأل أحد عن آلام ظهري وعظامه تأخذ شكل الانحناء عليك. كان الزبائن يلحون إلى المزيد، كما كان الأطفال يريدون أكثر.
انا لا ألوم أحدا على ذلك فأنا بنفسي كنت أنسى آلامي كلما نجحت في تحقيق مطالبهم وكانت كل سعادتي تكمن في نجاحي في ادخار مبالغ إضافية اتركها لمجابهة بعض الطوارئ فتنتشلني من ليالي بيضاء أقضيها معك.
أدرك يا آلتي أنك لو تكلمت لقلت للجميع أنني ما ألجأ إليك اليوم لجمع مال أو لإرضاء زبون، ولكنني ألجأ إليك فقط ليرتاح جسدي المنهك، فهو ما عاد يرتاح كغيره ممددا على سرير أو أريكة لأن عظامه قد أخذت هذا الشكل المنحني، فأصبحت لا ترتاح إلا عندما تتخذ الجلسة المناسبة لانحناءاته. أما عقلي وقلبي أيضا فلا يرتاحان ولا يشعران بالاطمئنان إلا اذا أدركا أن يديا لم تفقدا تلك الموهبة في التعامل مع المقص والقماش، وعيناي لا تزالان تسعفانني في إدخال الخيط في الإبرة، وإني حقا أرى نفسي في العشرينات من عمري ورجلاي تقودانك بسلاسة لحبك أروع الملابس وأحدثها. كم أحس أن رشاقتي لم تفارقني وأنا الآن في السبعينات من عمري. كم أراني أنيقة وإنا أواكب أحدث صيحات الموضة لأصنع منها ملابس زبائني وأفراد عائلتي.
آه يا عزيزتي لو يعلمون انك مرآتي العجيبة التي ألجأ إليها كلما أردت أن أرى نفسي شابة عشرينية الجسم والقلب!
كيف يطلبون مني أن أتركك لأخلد إلى الراحة، وأنت راحتي؟
الكاتبة هدى بوكسولة تونس