منذ شرائي لشقة بالدارالبيضاء، كنت أصادف في صحن الإقامة امرأة عجوزا وكنت أبدأها بالسلام فترد بكل لطف وحنية: السلام آوليدي ورحمة الله وبركاته، كيف حالك وحال الأولاد وصاحبة المنزل.
فأرد عليها: الحمد لله أمي السالكة حفظك الله.
ومع مرور الشهور ، تقلدت مسؤولية السانديك بإقامتنا، فكانت تزورني في المكتب من حين لآخر إما لتؤدي واجب السانديك أم تطلب مني برمجة مليتري الكهرباء حتى يظل الضوء في درج العمارة فترة أطول، وذلك لأنها تنتقل ببطء بخطى مثتاقلة فتجد المصابيح قد انطفأت، وكنت ألبي لها طلبها بكل أريحية.
ولقد سألت عنها الحارس النهاري للإقامة، فذكر لي أنها عاقر ، وقدتكفلت بطفلين وربتهما وحرست على تعليمهما، أما الطفل الكبير فقد أصبح رجلا واشترى فيلا وسيارة وتزوج وأنجب أطفالا وبناتا، والصغير قد اشتد عوده وهاجر إلى أمريكا وتزوج بفتاة أمريكية ومضى زمن طويل على مكوثه هناك ولم يفكر أبدًا في زيارة والدته(السيدة التي ربته) والغريب في الأمر أنها اشترت الشقة التي تقيم بها باسمه.
وكانت المسكينة لم تفقد الأمل في أنه سيطرق الباب ذات يوم، لكن عبثا، أما ابنها الأكبر فلم يزرها في شقتها إلا مرة واحدة، وكانت هي من تتحمل عبء المشي في الطريق رغم كبر سنها لزيارته، فمرارا تكون زيارتها له خفيفة ولا تتعدى يوما واحدا أو نصف يوم، ثم تعود لشقتها وكانت تؤنس وحدتها فتاة قادمة من البادية، وكان يبدو ذلك من زيها وحديثها وارتفاع صوتها، لكنني اكتشفت في الأخير أنها هي الأخرى تكفلت بها وجعلتها كآبنتها بالضبط، وبعد مرور بضعة سنين سمعت أنها زوجتها، وراحت إلى بيت زوجها، وبقيت العجوز وحيدة، كنت أصادفها من حين لآخر وهي تجلس بكرسي قرب حارس الإقامة وهما يتبادلان أطراف الحديث، ومرة ولجت مكتب السانديك لتؤدي الواجب وقد أخرجت منديلا من وسطها وفتحت عقدة به فتساقطت أوراقًا نقدية، وقالت لي خذ عدها وخذ المتأخرات من الواجب ورد الباقي ، كذلك فعلت، وكانت عندما تتبادل معي الحديث أستشف من كلامها حكمة وجواهر الكلم، وقد تعلمت منها أشياء كثيرة من واقع الحياة.
بعد شهور انقطع صوتها لأنها كانت كل مرة تنادي الحارس: ( وا العبدي..)لكن لم أعد أسمع هذا الصوت فآنتابني الفضول وسألت عنها الحارس، فأخبرني أنه لما اشتد عليها المرض استدعت فردا من عائلتها وسافرت للبادية ، وبعد شهر تقريبا ولجت الإقامة فوجدت الحارس مع شاب وقبل أن أنبس ببنت شفة أخبرني الحارس أن هذا الشاب من طرف أم السالكة وجاء ليؤدي واجب السانديك،ولقد سنحت لي الفرصة لأسأل عنها فقال لي الشاب، :إنها كانت مريضة جدا لكنها تتعافى
فحمدت الله على ذلك ولما سلمته الوصل ترجيته أن يبلغها سلامي، فقال لي: يوصل إن شاء الله، وانصرف.
وبعد أسبوعين من هذا الحدث، أخبرني الحارس أن الحاجة السالكة في ذمة الله
ودون شعور سرت أكبر وقلت إنا لله وإنا لله راجعون، وذكرت له أني كنت أعزها
فأجابني أنها هي الأخرى كانت تعزني، رحم الله الحاجة وغفر لها وأدخلها فسيح جنانه.
الكاتب المصطفى صحابي العروسي المغرب